المنتدى القـــانوني للمحـــامي عصــــام البــــاهلي

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المنتدى القـــانوني للمحـــامي عصــــام البــــاهلي

منتدى قانونية يقدم خدمات شاملة في مجالات المحاماة والاستشارات القانونية ( العـــدالة ) رسالتنا و( الحق ) غايتنا وايمانا منا بان المحاماة رسالة سامية نقدم هذا الموقع المتخصص للقانونيين


2 مشترك

    حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء

    جبران
    جبران


    عدد المساهمات : 66
    تاريخ التسجيل : 31/05/2010

    حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء Empty حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء

    مُساهمة من طرف جبران 11.08.10 14:49


    هذا الموضوع ملخص اطروحة دكتواره حول حكم تولي المرأة مهنة القضاء



    جامعة أم درمان الإسلامية
    كلية الدراسات العليا
    دبلوم الفقه المقارن


    حكم تولية المرأة القضاء
    بحث تمهيدي لمرحلة الماجستير
    في الدراسات الإسلامية




    إعداد: مصطفى محمود سليخ
    إشراف الدكتور: محمد خير هيكل
    1998





    مقدمة
    الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأَتَم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وقد خَطَّطتُ ليكونَ البحث في تمهيدٍ، وأربعة فصول، وخاتمة، وذلك كما يلي:
    تمهيد: في سبب اختلاف الفقهاء في مسألة تولية المرأة القضاء.
    الفصل الأول: في بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة.
    الفصل الثاني: في أدِلَّة مذاهب العلماء.
    الفصل الثالث: في مناقَشة أدلة المذهب.
    الفصل الرابع: في الاختيار والتَّرجيح.
    الخاتمة: في ذِكْر أهم النتائج المستخلَصة منَ البحث.


    تمهيد
    بَيَّنَ فقهاؤُنا - رحمهمُ الله أجمعين -: أنَّ شريعة الإسلام توجب وجود القضاء في المجتمع الإسلامي، ووَضَّحوا الشُّروط التي لا بُدَّ مِن توافُرها فيمَن يَتَوَلَّى هذا الأمر الخطير، هذه الشُّروط التي استنْبطوها منَ القرآن والسُّنَّة وغيرهما مِن مصادر التَّشريع الإسلامي.

    إذًا؛ للقضاء شروط يجب توافرها فيمَن يقوم بحمْل أعباء هذا المنصب؛ وذلك لكيْ يكونَ أهلاً للفصل بين الناس، ولا يجوز لولِيِّ الأمر أن يقلِّدَ هذا المنصب إلاَّ لِمَن تتوافر فيه كامِل الشروط.

    وكان الحادي للعلماء إلى اشتراطها هو الاحتياطَ بِقَدْر الإمكان؛ لأنْ تكونَ الأحكام الصادرة في القضايا أحكامًا شرعيَّة، صادِرة عنْ ذي أهلية صالِحة لإصدار مثل هذه الأحْكام.

    ومنَ الشروط التي شَرَطَها العلماء لِتَوَلِّي القضاء: الذُّكورة، وهذا الشرط محلُّ اختلافٍ كبيرٍ بين العلماء في الماضي والحاضر، فمِنهم منِ اعتبر الذكورة شرطًا مِن شروط القاضي؛ وعلى هذا فلا يجوز تولية المرأة، ومنهم مَن لم يعتبرِ الذكورة منَ الشروط، فيجوز عنده توليتها، ومنهم مَن اعتبرها شَرْط جواز، لا شرط صحة.

    ومن هنا يَتَبَيَّن أنَّ اختلاف الفُقَهاء في تَوْلِية المرأة القضاءَ، نابِع مِن اختلافهم في تحديد شروط أهلية القضاء، وهل تعتبر الذُّكورة شرطًا مِن هذه الشروط أو لا؟

    وإليك بيانَ ما قالَه العلماء في هذه المسألة:
    الفصل الأول
    بيان مذاهب العلماء في حُكم تولية المرأة القَضاء
    أولاً: مَذْهب الجُمهُور:
    ذَهَب جمهور العلماء - وفيهم الشافعية، والحنابلة، وجمهور المالكية[1]، وغيرهم – إلى: أنَّه لا يجوز تولية المرأة القضاء، في أي نوع من أنواع القضايا، سواء أكانت في قضايا الأموال، أم في قضايا القِصاص والحدود، أم في غير ذلك منَ القضايا، ولو وُلِّيَتْ، كان مَن وَلاَّها آثمًا، ولا ينفذ قضاؤُها، ولو كان موافقًا للحَقِّ.

    ثانيًا: مذهب الحنفيَّة:
    أمَّا الحنفيَّة، فنرى بعض الكتَّاب في الفقه الإسلامي، ينسبون إليهم أنهم يرون جواز أن تَتَوَلَّى المرأةُ القضاء، في الأمور التي يصِحُّ لها أن تشهدَ فيها، وهي ما عدا مسائل الحدود والقِصاص[2].

    بينما يرى البعض: أنَّ حقيقة مذهب الحنفيَّة غير ذلك؛ لأنَّ الحنفية يقفون مع الجمهور في القول: بِعَدَم جواز تولية المرأة القضاء؛ لكنهم زادوا على ذلك أنها لو وُلِّيَتْ أَثِمَ مَن ولاَّها؛ لكن قضاءها ينفذ مع إِثْم المُولِّي بشرطينِ:
    1- أن يوافقَ قضاؤها كتاب الله، وسنَّة رسوله.
    2 - أن يكونَ القضاء في غير الحدود والقِصاص؛ إذ لا تُقْبَل شهادتها فيهما[3]؛ ويستدل لذلك بنصوص الحنفية أنفسهم، كمِثْل ما قَرَّرَهُ صاحب "مجمع الأنهر"؛ حيث يقول: "يجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق؛ لكونِها مِن أهل الشهادة، لكن أَثِم موليها؛ للحديث: ((لن يفلحَ قوم وَلَّوا أمرهم امرأة))[4]في غير حدٍّ وَقَوَد؛ إذ لا يجري فيهما شهادتها، وكذا قضاؤها في "ظاهر الرِّوايَة".

    وهو أيضًا ما أثبته الكمال ابن الهُمام[5]،في سياق رَدِّه على استدلال الجمهور على عدم نفاذ حكمها إذا ولِّيتْ؛ حيث يقول: "والجواب: أن ما ذكر غاية ما يفيد منع أن تَسْتَقْضِيَ وعدم حِلّه، والكلام فيما لو وليتْ، وأَثِم المقلد، أو حكمها خصمان، فقضتْ قضاء موافقًا لدِين الله، أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهِضِ الدليل على نَفْيه بعد موافقته ما أنزل الله، إلاَّ أن يثبت شرعًا سَلْب أهليتها، وليس في الشرع سوى نُقصان عقلها، ومعلوم أنه لم يصل إلى حدِّ سلب ولايتها بالكُلية، ألا ترى أنها تصلح شاهدة... وذلك النُّقْصان بالنِّسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى الجِنْس، فجاز في الفرد خلافه... ولذلك النقص الغريزي نَسَب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَن يوليهنَّ عدم الفلاح[6]، فكان الحديث متعرِّضًا للمُولِّين ولَهُنَّ بنَقْص الحال، وهذا حق؛ لكن الكلام فيما لو وليتْ فقضتْ بالحق، لماذا يبطل هذا الحق[7]؟

    مع أنَّ الكمال نفسه قد قال قبل هذا الموضع في الكتاب نفسه: "وأما الذكورة، فليستْ بشرط إلاَّ للقضاء في الحدود والدِّماء، فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما[8]".

    فالكمال هنا لا ينفي كون الذكورة شرطًا للتَّوْلية؛ بل مراده - والله أعلم - أنها ليست شَرْطًا لصحة الحكم إلاَّ في قضايا الحدود والدماء، حيث إنَّ الذكورة عندهم لا تؤثِّر على نفاذ الحكم، فهو شرط جواز، لا شرط صحة، وقد صَرَّح هو نفسه عن هذا المراد عند مناقشته استدلال القائلين بعدم نفاذِ حكم المرأة إذا وليتْ، ومثل هذه العبارة يوهم بأنَّ المراد غير ذلك.

    ثمَّ يواصِل مَن ذهب إلى هذا الرَّأي القِراءة في كُتُب الحنفيَّة؛ ليثبت أنَّ بعض عباراتهم يوهم ظاهرُها جواز التقليد، من ذلك قول المِرْغِينَانِي[9]: "ويجوز قضاء المرأة في كلِّ شيء؛ إلاَّ في الحدود والقِصاص"[10]، ومع أنه عبر بقوله "قضاء"، ولم يعبِّرْ بكلمة تقليد أو تولية، فإنَّه بتعبيره هذا لا يخرج عما هو عليه مذهب الحنفية - كما يرى هذا الكاتب - في الواقِع من أنَّه لا يجوز تولية المرأة القضاء؛ لكنها لو وليتْ مع الإثم، صَحَّ قضاؤُها فيما تصح فيه شهادتها، إذا كان موافِقًا للحَقِّ.

    ثم يقول بعد هذا: مع أن تعبيره لا يخرج عنِ المذهب؛ إلاَّ أنه يوهِم، والعبارة التي لا توهم أَوْلَى؛ لِعَدَمِ احتياجها إلى تدقيق وتمحيص وبحث عنِ المراد[11]، وإلى مثل هذه العبارات ينسب هذا الكاتب الخطأ الذي يقع فيه بعض الحاكين لمذهب الحنفية منَ الكُتَّاب؛ حيث إنَّ بعض المصادر القديمة في كتب الحنفيَّة أنفسهم، وفي كتب غيرهم ممن حكى مذهبهم، يفهم من ظاهر عباراتها: أنَّ المرأة يجوز توليتها القضاء في غير قضايا الحدود والدِّماء.

    فمثلاً يقول في "البدائع": "وأما الذكورة، فليستْ مِن شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلاَّ أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهليَّة القضاء تدور مع أهليَّة الشَّهادة"[12].

    ثم يُبَرِّر هذه العبارة: بأنَّ المُرَاد منها أنَّ الذكورة ليستْ شَرْطًا بِكُل ما يتصل بمسألة قضاء المرأة؛ إذ إنها لا تشترط في صِحَّة حُكمها في الأمور التي يجوز لها أن تشهدَ فيها، وهي عند الحنفيَّة وجمهور العلماء ما عدا القِصاص والحدود، فالمرأةُ إذا حكمتْ فيما يصح لها أن تشهدَ فيه، كان حكمُها صحيحًا عند الحنفيَّة، مع إِثْم مَن وَلاَّها مَنْصب القَضاء.

    ثم يقول: "ونظير هذا التعبير في كلام العلماء - وهو تعبير في الجملة - ما قالَه العلماء عند بَحْث مسألة تصرُّفات الصبي المميز، قال العلماء: إنَّ تصرُّفات الصبي المميّز جائزة بالجملة، يريدون بذلك أنها تجوز في بعض الأحيان"[13].

    ثم يُقَسِّم تصرُّفات الصَّبي المُميز إلى ثلاثة أقسامٍ:
    1 - تصرُّفات جائزة، ولو خالف الولي، وهي ما كانت نافعة نفعًا مَحْضًا للصَّبِي؛ كالاصطياد، وقَبول الهدية.
    2- تصرُّفات غير جائزة، ولو أجازها الولي، وهي ما كان فيها ضَرر مَحْض للصبي؛كالطلاق والهِبة.
    3- تصرُّفات متوقِّفة على إجازة الولي، وهي ما كانتْ مُترَدِّدة بين النَّفع، والضَّرر، وذلك كالبَيْع والشِّراء.

    وبعد هذا التَّقسيم يقول: "فإذا قال العلماء: إنَّ تصرُّفات الصَّبي المميز جائزة في الجملة، فإنهم يريدون أنها في بعض الحالات تكون جائزة، فلعل المراد من عبارة: "وأما الذكورة فليستْ من شرط جواز التقليد في الجملة"، أن الذُّكُورة ليست شرطًا في كلِّ ما يتصل بمسألة قضاء المرأة؛ لأنها لا تشترط في صحة حكمها في الأمور التي يجوز لها أن تشهدَ فيها"[14].

    ثمَّ ينقلنا هذا الكاتب إلى مصادر لغير الحنفيَّة؛ لنجد مثل هذه العبارات، ويُبَرِّر لكلِّ عبارة، فمَثَلاً: ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد" يقول: "وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكونَ المرأة قاضيًا في الأموال"[15]، ولعَلَّ المراد مِن هذه العبارة صِحَّة القضاء، وليس صحة التَّولية، على أنَّ الملاَحَظ مِن ابن رشد أنَّه أخطأ حكاية المذهب، فالحنفية يرون صِحَّة قضائها مع الإثم، فيما عدا الحدود والقصاص، وليس في الأموال فقط؛ كما يقول ابن رشد.

    وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضيَ المرأة فيما تصح شهادتها، ولا يجوز أن تقضيَ فيما لا تصحُّ فيه شهادتها"[16]. ويمكن أن نُوَجِّه إلى هذه العبارة الملاحَظة السابقة نفسها.

    وكذلك نجد ابن حجر العسقلاني[17] في كتابه "فتح الباري" يقول: "واتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي إلاَّ عند أبي حنيفة، واستثنوا الحدود"، ولا تسلم عبارته منَ المُلاحَظة نفسها.

    ولعلَّ الصَّنعاني قدْ أخطأ في حكاية مذهب الحنفيَّة؛ حيث قال: "وذهبَ الحنفيَّة إلى جواز توليتها الأحكام إلاَّ في الحدود"[18]؛ لأنَّهم لا يقولون بجوازها، لا في الحدود، ولا في غيرها.

    الكلام نفسه يُوجه إلى ما قاله ابن حزم[19] في "المُحَلَّى": "وجائز أن تلي المرأة الحكم، وهو قول أبي حنيفة"[20]،فهذه العبارات وأمثالها توهم بأنَّ الحنفيَّة يُجيزون تولية المرأة القضاء، ولعلَّ أوضح بيان لما ذَهَب إليه الحنفيَّة - كما يرى - هو ما ذَكَرْناه مِن عبارة كلٍّ منَ الكَمَال ابن الهمام، وصاحب "مجمع الأنهر"[21].

    هذا ما يراه هذا الكاتب، وفيه نظر؛ لأنَّ كلامَه هذا إنما يصح إذا قرأنا مذهب الحنفيَّة من وجهة نظر شافعية، أما إذا قرأناه من وجهة نظر حنفيَّة، فلا يكون فيه أي إشكال؛ لأنَّ هذا الحكم من قبيل المكروه تحريمًا، ومثل هذا حكمه عند الحنفيَّة أنه يصحُّ مع الإثم؛ لأنه ثبت النَّهي عنه بطريقِ الآحاد، وبهذا فلا غُبار على أيِّ مِن عبارات الحنفيَّة، أو مَن نقل عنهم؛ وإلا فهل منَ المعقول ألاَّ يسلم أيٌّ من عبارات الحنفيَّة إلا عبارتين أو ثلاثة؟
    أم هل يُعقل أن يخالفَ الكمال نفسه في موضعين غير متباعدين؟ ثم إن صاحب "مجمع الأنهر" نفسه يقول: ويجوز قضاء المرأة... لكن أَثِم موليها؛ للحديث ((لن يفلحَ قوم ولوا أمرهم امرأة))، في غير حد وقود[22].

    ثم إنَّ الذين نقلوا مذهب الحنفيَّة من غير الحنفيَّة، هم من أئمة علماء الإسلام؛ مثل: ابن حجر العسقلاني، وابن رشد، والماوردي، وابن حزم، وغيرهم، فهل كل هؤلاء الأعلام وهموا في حكاية مذهب الحنفية؟!

    غالب الظَّن: أن مثل هذا لا يقع، أما إذا قلنا: بأنَّ حكم تولية المرأة القضاء في مذهب الحنفية مكروه تحريمًا، فلا نحتاج إلى تأويل معظم عبارات الحنفية، وجميع عبارات غير الحنفية ممن نقل عنهم.

    ويرى باحث آخر[23]:أنَّ عبارات الحنفيَّة ليس فيها أي إشكال، وإنَّما الخطأ من غير الحنفيَّة في فَهْم عبارات الحنفيَّة، حيث فهم بعضُهم أنه يجوز للمرأة أن تَتَوَلَّى القضاء؛ بناءً على أنه المُراد بِلَفْظ القضاء: التَّوْلية والتَّقليد.

    وفَهِم البعض الآخر: أنَّ المراد بالقضاء الحكم، ولما كان حكمها جائزًا نافِذًا، كانتْ توليتها جائِزة؛ إذْ جواز الحكم ونفاذه فَرْع جواز التَّولية وصحتها، وإذًا فيلزم من جواز حكمها ونفاذه جواز توليتها، وهذا غير صحيح؛ إذ قد تكون توليتها غير جائزة، ويكون قضاؤُها بناء على هذه التولية جائزًا؛ اعتمادًا على قواعد الحنفيَّة، وذلك أنهم يقولون: إنَّ النَّهي عنِ الشيء إذا لم يكن لذاته؛ بل كان لأمر مجاور له - أفاد المشروعية مع الكَرَاهة؛ بمعنى: أنَّ المكلف لو فعل الشيء المنهي عنه، فإن فعلَه يكون صحيحًا، تَتَرَتَّب عليه الأحكام الشرعية مع الإثم، وذلك كالوطء حال الحيض، فإنَّ الرَّجُل آثِم؛ لكن هذا الوطء تَتَرَتَّب عليه جميع الأحكام المشروعة له مِن ثُبُوت النَّسَب، وحلها للزَّوج الأول، وتكميل المهر، والعِدَّة؛ لأنَّ النَّهي عنِ الوطء حال الحيض، لا لذات الوَطْء؛ بل لأمر مجاورٍ له، وهو الأذى.

    ثم يقول هذا الباحث: والنَّهي عنْ تولية المرأة القَضَاء، المستفاد من قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ((لن يفلحَ قوم ولَّوا أمرهم امرأة)) من هذا القبيل؛ لأن النَّهي عنِ التولية ليس لذات التَّولية؛ لأن تولية القضاء مشروعة بأصلها، إنما النهي جاء لأمر مجاور، وهو مظنة التقصير في الحكم؛ بسببِ النُّقصان الطبيعي لدى المرأة عنِ الرجل، وانسياقها وراء العاطفة، وما يعتريها منَ العوامل الطبيعية بتوالي الأشهر، والسنين من حمل، وولادة، وحيض... إلخ، مما يؤثِّر في انتظام قيامها بالقضاء على الوجه الكامل، وفي إصابة الحق.

    وتطبيقًا للقاعدة المذكورة عند الحنفيَّة، أنه لو قام ولي الأمر بتولية المرأة القضاء، أَثِم بهذه التولية؛ لارتكابه أمرًا غير مشروع، ولكن قضاءها يكون صحيحًا نافذًا في غير الحدود والقصاص، إذا وافَق الحق.

    هذا ما يراه بعض الباحثين، وفيه نظر؛ فإن كلامه في هذه المسألة يمكن تقسيمه إلى شِقَّيْنِ:
    الشق الأول: أنَّ الخطأ في فهم غير الحنفية لعبارات الحنفية، وأنه لا يفهم منَ القضاء التولية، ولا منَ التولية القضاء، وأن كلامهم - بناء على ذلك - لا يحتاج إلى تأويل.

    ونقول: إنَّ هذا الكلام إذا صدق على عبارة المِرْغِينَاني: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء؛ إلاَّ في الحدود والقصاص"[24]، وعبارة الكمال: "وأما الذكورة، فليستْ بشرط إلاَّ للقضاء في الحدود والدِّماء، فتقضي المرأة في كل شيء؛ إلاَّ فيهما"[25]، فإنه لا يصدق على عبارة الكاساني في "البدائع": "وأما الذكورة، فليست من شرط جواز التقليد في الجملة"[26]؛ إذْ تفيد جواز التقليد صراحَةً.

    الشق الثاني: أنه جَعَل النَّهْي المستفاد منَ الحديث نهيًا لِوَصْفٍ مجاور؛ كالنَّهي عنِ الاتصال بالزوجة أثناء الحيض.

    وهذا غير دقيق، والدِّقَّة أن يكونَ هذا النهي من قبيل النَّهي عنِ الشيء لوصفٍ لازم؛ كربا الفضل[27]؛ لأنَّ عِلَّة التحريم هي الأُنُوثة؛ لانْضِباطها واطِّرادِها، بخلاف مظنة التقصير، فإنها لا تصلح مناطًا للحكم؛ لأنَّها غير مُطردة، كما سيأتي في مناقَشة أدلة المذاهب - إنْ شاء الله تعالى.

    مما سَبَق يَتَبَيَّن: أنَّ مذهب الحنفية صحة تولية المرأة القضاء، مع إِثْمِها، وإثم مَن وَلاَّها، وهذا ما يسمى عند الحنفية بالمكروه تحريمًا، كما يَتَبَيَّن أنَّه لا تناقض في عبارات الحنفية، ولا غيرهم، ولا يحتاج شيء منها للتأويل، كما ذهب أكثر العلماء والباحثين.

    ثالثًا: رأي ابن جرير الطبري:
    نُقل عن ابن جرير الطبري المُؤرِّخ، والمفسر، والفقيه المعروف، أنه قال بِجَوَاز أن تَتَوَلَّى المرأة القضاء في كل شيء، بدون حَدٍّ، أو قَيْدٍ، في كل أنواع القضايا.
    يقول الحافظ في "الفتح": "واتَّفَقُوا على اشتراط الذكورة في القاضي، إلاَّ عند أبي حنيفة، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير[28]، كما نقله عنه ابن رشد في "البداية"، بقوله: "وقال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكمًا على الإطلاق في كل شيء"[29].

    ولكننا نجد أنَّ بعض العلماء منَ القدامى والمعاصرين، كأنهم اعتبروا رأي ابن جرير خلافًا، وليس اختلافًا، كما يفهم من سياق عباراتهم، فنرى الماوَرْدِي يقول: وشَذَّ ابن جرير الطبري، فجَوَّز قضاءها في جميع الأحكام، ولا اعتبار بقولٍ يردُّه الإجماع، مع قوله - تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[30]؛ يعني: في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمْنَ على الرجال[31].

    وأيضًا: جاء في "أحكام القرآن"، بعد نقل رأي ابن جرير: "ولم يصح ذلك عنه، ولعلَّه كما نقل عن أبي حنيفة"[32]، فنراه ينفي صحة النقل، ويحاوِل التأويل.

    وإذا انتقلنا إلى بعضِ الكُتَّاب المعاصرين، بعد أن ساق هذا الرأي يقول: "وهذا الرأي منَ الشذوذ ومخالفة الإجماع؛ بحيث لا يُلْتَفَتُ إليه"[33]، ويقول غيره: "واعتبر الفقهاء رأي ابن جرير الطبري خلافًا لا اختلافًا؛ لأنه يصادِمُ الأدلة الشرعية، فهو قولٌ شاذ"[34].

    ويرى أحد الباحثين أنَّ هذا الرأي غير ثابت منَ الناحية التاريخية، والناحية الموضوعية.

    أمَّا منَ الناحية التَّاريخيَّة، فلعدم ثبوت النقل عن ابن جرير؛ لما ذكر في "أحكام القرآن"، كما أن هذا الرأي لم يصلنا عن طريق سندٍ يصل في نهايته إلى الإمام الطبري، وأيضًا فإنَّ هذا الرأي غير موجود في كتبه؛ مما يؤدِّي إلى ضعف الاطمئنان إلى هذا النقل.

    وأما منَ الناحية الموضوعية، فإنَّ هذا القول مُخالِفٌ لِحديث: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))، كما أنه مخالِف للإجماع القائم في العصر السابق لعصر ابن جرير،على عدم جواز تولية المرأة القضاء، فليس لابن جرير سابق إلى هذا القول، ومثل هذا القول إذا خالف الإجماع، ولم يكن في عصر المجمعين، لا يُعتد به، ولا يقبل؛ لأن الإجماع إذا انعقد في عصر منَ العصور على حكم شرعي، ولم يخالف فيه أحد، فلا يجوز للمتأخرين عن هذا العصر أن يُخالِفوا هذا الإجماع.

    ثم يصل هذا الباحث إلى نتيجة هي: أن نسبة القول بجواز أن تَتَوَلَّى المرأة القضاء إلى ابن جرير لا تصلح رواية، ولا دراية[35].

    وقد أجيب عن ذلك بما يلي:
    1- الناحية التاريخية: وهي أن هذا النَّقل عن ابن جرير، ولم ينسب إلى كتاب مِن كُتُبه.

    الجواب عليها: أن كتب ابن جرير كثيرةٌ جدًّا، وفيها الموسوعي الضخم؛ بحيث لو نسب القول إليه، لكانت هذه النسبة كعدمها؛ لصعوبة استيعاب مثل هذه الكتب بكاملها، وقد يكون القول قد وقع في غير مظنته بسبب ورود مناسبة تقتضي ذكر مثل هذا القول، كما أنَّه منَ الجائز أن يكونَ هذا القول مذكورًا في أحد كتب ابن جرير التي لم تصلنا، وضاع هذا الكتاب مع ما ضاع من التُّراث الإسلامي في العصور السابقة بفعل عوامل متعددة؛ خاصة إذ علمنا أن الإمام الطبري قد اختار له مذهبًاً فقهيًّا، مستَقِلاًّ، وعَلَّل له، ودَلَّل عليه، وجعله في كتابٍ سماه: "أحكام شرائع الإسلام"، ذَكَرَه السيوطي[36]، وهذا الكتاب غير موجود الآن، وغالب الظن أنه فُقِد، وبهذا تكون هناك قضايا وأحكام كثيرة، لا يمكن معرفة رأي ابن جرير فيها.

    ومن هنا نقول: إن كثيرًا منَ الأحكام التي يقول بها العلماء الأقدمون، سواء الإمام الطبري وغيره، لا يمكن أنْ نحصل عليها إلاَّ بِواسِطة النَّقل والرواية، فإن لم توجد الرواية أمكننا التَّعَرُّف على هذا القول بواسِطة نقل العلماء له.

    ويكفي هنا أنَّ العلماء الذين نقلوا رأي ابن جرير هم مِن أساطين العلم، وأئمة العلماء - كالماوردي، وابن رشد، والحافظ ابن حجر العسقلاني - وخاصة أنهم لم ينقلوا هذا الرأي بصيغة التمريض، كأن يأتوا به بلفظ يدل على ضعفه مثل: رُويَ، ونُقل - بالبناء للمجهول - إنما جاؤوا به بصيغة الجَزْم، والتأكيد، وليس هذا شأنهم في نقل الآراء التي تكون موضع الشك، حتى ولو فرضنا أن ابن جرير الطبري لم تكن له كُتُب مُؤَلَّفة، ولن يرد بحجة أنه ليس موجودًا في أحد كتبه؛ كالشأن في معظم المسائل التي تحكى عنِ العلماء، ومما يقوي هذا القول: أنَّ أحدًا من العلماء لم ينقل عن ابن جرير قولاً بعدم جواز تولية المرأة القضاء دون قيد أو شرط، ولا يوجد هذا الرأي في كتاب من كتبه، وإلا لنقله العلماء عنه.

    2 -الناحية الموضوعية: وهي أنَّ هذا الرأي مخالف للحديث، ومخالف لإجماع الأمة.

    الجواب عليها: أن هذا الكلام لا يقال عند حكاية الآراء، وإنما الآراء يصح حكايتها ما دام ناقلوها موضع الثقة، وعلماؤنا الذين نقلوا عن ابن جرير قوله في قضاء المرأة موضع الثقة قطعًا.

    وقول الماوَرْدي: "ولا اعتبار بقولٍ يردُّه الإجماع"، لا يرد نسبة قول إلى قائله، وإنما موضع رد القول على صاحبه يكون عند الحوار العلمي، وعند ذكر حُجج الأطراف المتنازعة، ولا يكون عند ذِكْر الآراء في المسألة المتنازَع فيها[37].

    تحديد مذاهب العلماء من خلال ما سَبَق:
    نستطيع مما سَبَق أن نُحَدِّدَ مذاهب العلماء في حكم تَوْلية المرأة القضاء، وأن نُقَسِّمها إلى ثلاثة مذاهب رئيسة:
    المذهب الأول: ذَهَبَ الجمهور - وفيهم الشافعية[38]، والحنابلة، والشيعة الزَّيديَّة[39]، وجمهور المالكيَّة – إلى: أن المرأة لا يجوز توليتها القضاء، فلو وليتْ لم يصح قضاؤها مع إثمها، وإِثْم مَن وَلاَّها، ولا ينفذ قضاؤها، ولو فيما يصح فيه شهادتها، ولو وافق الحق.

    المذهب الثاني: ذَهَبَ الحنفيَّة إلى: أنَّ تولية المرأة القضاء مكروه تحريمًا فيما يصح شهادتها، فينفذ فيه قضاؤها إذا وافق الحق، مع إثمها وإثم من ولاها، أما فيما لا شهادة لها فيه - وهو الحدود والقصاص - فلا تجوز توليتها، ولا ينفذ قضاؤها، ولو كان موافقًا للحق.

    المذهب الثالث: ذهب محمد بن جرير الطبري، وابن حزم الظاهري، إلى: أنه يجوز تولية المرأة القضاء في كل ما تصح فيه شهادتها، ولها أن تشهدَ في كل شيء دون حد أو قيد.


    الفصل الثاني
    في أدِلَّة مذاهب العلماء في حكم تولية المرأة القضاء
    أولاً: أدِلَّة أصحاب المَذْهب الأول:
    ذَهَب الجمهور - كما ذَكَرْنا سابقًا – إلى: أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء، ولا ينفذ ما قضت به لو وُليت، مع إثْمها، وإثم مَن ولاها، واستدلوا لمذهبهم هذا بأدِلَّةٍ منَ القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والإجماع، والقياس، والمعقول.

    الدليل الأول: القرآن الكريم
    استدلوا بقوله - تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[40].

    وجه الدلالة: ووجه الدلالة منَ الآية الكريمة هو أنها أفادتْ حصر القِوامة في الرِّجال دون النساء، واستفدنا الحصر من تعريف الرِّجال بلام الجنس؛ إذ إن لام الجنس إذا دخلتْ على المبتدأ قصرته على الخبر، كما تقول: الخطيب فلان، وهذا الحصر يسمى حصرًا إضافيًّا؛ أي: بالنسبة للنساء، ويستفاد مِن هذا الحصر أنَّ الله - سبحانه - جَعَل الرِّجال قوامين على النساء ولا عكس، فعلى هذا لا تَصِحُّ ولاية المرأة القضاء؛ لأن في قضائها قوامة على الرجال، وهذا مما يَتَعَارَض مع الآية الكريمة.

    الدليل الثاني: السُّنَّة الشَّريفة:
    استدل الجمهور منَ السُّنَّة الشَّريفة بدليلينِ:
    أ- عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الجمل، بعدما كدتُ أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس مَلَّكوا عليهم بنت كسرى، قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))[41].

    وجْه الدلالة: ووجْه الاستدلالِ بهذا الحديث ظاهِر في مَنْع المرأة مِن تولِّي القضاء؛ حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم الفلاح لِمَن يُوَليها، وهذا التعبير من قبيل الخبر بمعنى الإنشاء؛ أي: هو خبري لفظاً، إنشائي معنى، وحتى لو قلنا بأن هذا الكلام خبر حقيقة، فإنه إخبار بعدم الفلاح لمن يقوم بهذا الفعل، وعدم الفلاح ضَرر، والضرر منهيٌّ عنه شرعًا، وهذا الضرر متمَثِّل في تولية المرأة الولايات العامَّة، فتكون هذه التولية غير جائزة.

    والأقرب أنَّ هذه الجملة مِن حيث المعنى إنشاء يَنْهَى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما يؤدي إلى عدم الفلاح، وهو تولية المرأة الولايات العامة؛ إذ إن كلمة (أمرهم) مفرد مضاف إلى معرفة، وهو صيغة من صيغ العموم، تدل على أن المراد جميع الأمور والشؤون، فتكون شاملة للقضاء وسائر الولايات الأخرى، حتى ولو كانت ولايات خاصة؛ لكن الإجماع قام على استثناء الولايات الخاصة كالوصاية على اليتامى، والولاية الأسرية فجاز إسنادها للمرأة، وتبقى الولايات العامة على عموم الدليل وهو المنع، فتكون المرأة ممنوعة منَ الولايات العامة ومنها القضاء، دون الولايات الخاصة.

    ب - عن بُرَيْدة بن الحصيب يرفعه: ((القضاء ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عَرَف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار))[42].

    وجه الدلالة: ووجه الدلالة منَ الحديث أنَّه نصَّ على كون القاضي رجلاً، فيدل الحديث بمفهومه المخالف على خروج المرأة، وعدم صلاحيتها للقضاء.

    الدليل الثالث: الإجماع:
    ادَّعى أصحاب هذا الرأي الإجماع على مَنْع المرأة مِن تولِّي القضاء، وقالوا بأن الإجماع قائم على منعها قبل ظهور الخلاف، فلا يُعتد بمخالفة مَن خالف؛ لأنه قول من غير دليل، ومخالفته تعتبر خرقًا للإجماع فلا تُقبل، خاصة إذا ظهر هذا الرأي بعد عصر المجمعين.

    الدليل الرابع: القياس:
    قالوا: إنَّ المرأة ممنوعة مِن توِّلي رئاسة الدولة بالإجماع؛ استناداً إلى حديث: ((لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))، فيُقاس عليها القضاء، بجامع أنَّ كلاًّ منهما ولاية عامة، فتكون المرأة ممنوعة مِن تولي القضاء، كما أنها ممنوعة مِن تولي رئاسة الدولة، والسبب في ذلك ضعف المرأة ونقصانها الطبيعي عنِ الرجل بسبب ما يعتريها منَ الأمور الخاصة بالنساء.

    دليل آخر: إنَّ مجلس القضاء يجب فيه على القاضي أن يحضرَ محافل الخصوم، ومخالَطة الرجال، والمرأةُ ممنوعة من ذلك، ومأمورة بالتَّخدر، فهي ليست أهلاً لحضور مثل هذه المحافل، والقضاء لا يكون إلاَّ بِحُضورها، فيؤدِّي إلى منعها منَ القضاء[43].

    دليل آخر: لو جاز تولية المرأة القضاء، لَفَعَلَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أصحابه - رضوان الله عليهم - من بعده؛ ولكنه لم يثبتْ توليتها هذا المنصب في تلك العصور وما بعدها، ولم ينقل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَلاَّها القضاء، أو ولاية بلد منَ البُلدان، ولا نقل ذلك عنْ أحد منَ الخلفاء الراشدين، ولا عمَّن بعدهم، فثبت: أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء.

    دليل آخر: القضاء يحتاج إلى كمال الرأي، والفطنة، وتمام العقل، وهذا غير مُتَحَقِّق في المرأة على سبيل الكمال؛ وقد نَبَّه الله - سبحانه - إلى نسيان النساء بقوله - تعالى -: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}[44].

    فالغالب في النساء أنهنَّ مُعَرَّضات للنِّسيان، وإن كان بعضهنَّ شديدات الذَّكاء، بحيث يفوق بعض الرجال، ولكن النادر لا حُكم له، وينسب بعض الباحثين السبب في هذا إلى ما يعتري المرأة من الأمور الخاصة بالنساء، وهي في غالب الظن مما يؤثر على الملكة العقليَّة؛ كالحمل، والولادة، وما يصاحبها من آلام ومشقَّة وحمل هموم الصغار، ومرضها الشهري، وما يغلب عليها منَ العاطفة وشدتها، مما يمكن أن يشوش على العقل؛ حتى ولو كان حاد الذكاء، شديد الفطنة، فيؤثِّر هذا على كمال قدراتها العقلية، حين الالتجاء إلى الملكة العقليَّة في حل المستعصي منَ المشكلات، والعويص منَ القضايا[45].

    دليل آخر: ربما كانتِ المرأة ذات جمال باهر، فتحدث فتنة؛ لأنها لا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّض للرِّجال، فيحدث الممنوع شرعًا، وما يؤدِّي إلى الممنوع ممنوع، فنصل إلى منع من المرأة القضاء وهو المطلوب.

    ثانيًا: أدلَّة أصحاب المذهب الثاني:
    وهو مذهب الحنفيَّة القائلين بأن قضاءها يصح مع الإثم، فيما يحل لها أنْ تشهدَ فيه إذا وافق الحق، واستدلوا لذلك بدليلين:
    الدليل الأول:
    استدلوا أولاً على التأثيم بحديث الجمهور ذاته، وهو: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))[46]، إنَّما أثبتوا به الكراهة التحريميَّة، ولم يثبتوا التحريم؛ لأنه دليل ظني، والحرام لا يثبت عندهم إلاَّ بدليلٍ قَطْعِي.

    الدليل الثاني:
    واستدلوا بهذا الدليل على صحة ما قضتْ به في غير مسائل القِصاص، والحدود، وكان استدلالهم بالقياس، قالوا: إنَّ القضاء يُشارك الشهادة في باب الولاية، والمرأة يصح لها أن تشهدَ في غير الحدود والقصاص، فيصح أنْ تكون قاضيةً في غير الحُدود والقصاص، وإن أثِم موليها للدَّليل السابق، بشرط أن يوافق قضاؤها الحق[47].

    ثالثًا: أدلة أصحاب المذهب الثالث:
    وهو مذهب ابن جرير الطبري، وابن حزم الظاهري، القائل بجواز تولية المرأة القضاء مطلقًا، واستدلوا لمذهبهم بما يأتي:
    الدليل الأول:
    الأصل: أن كل مَن تكون عنده مقدرة على الفصل بين الناس، يكون حكمُه جائرًا، وهذا الأصل عام تدخل فيه جميع الولايات، وقد خُصص هذا العامُّ بإجماع العلماء، فأجمعوا على منع المرأة من ولاية رئاسة الدولة؛ استنادًا إلى حديث: ((لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأةً)) المفيد لهذا الحكم، فيستثنى من الأصل العام، ويبقى ما عداه على حكم الأصل، فنصل إلى أنه يجوز للمرأة أن تتولى القضاء، ولا تعتبر أنوثتها مانعًا؛ لأنها لا تؤثر في فهمها للحجج، وفصلها في الخصومات[48].

    الدليل الثاني:
    قياس القضاء على الشهادة، قالوا: بما أن الشهادة ثابتة للمرأة بنص القرآن الكريم في قوله - تعالى -: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، فيجوز للمرأة أن تتولى القضاء، قياسًا على قبول شهادتها؛ بجامع الولاية في كلٍّ.

    الدليل الثالث:
    قياس القضاء على الولاية الأسرية، حيث إن الشرع أعطى المرأة حقَّ الولاية على بيت زوجها، وقيامها على إدارته، وتدبير شؤونه؛ بدليل ما روى ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلكم راعٍ، ومسؤول عن رعيته... والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها))[49]، فيجوز توليتها القضاء، قياسًا على ولايتها بيت زوجها؛ بجامع الولاية في كل.

    الدليل الرابع:
    قياس القضاء على الحِسبة، فيما أن المرأة يجوز لها القيام بالحسبة؛ لما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه ولَّى أم الشفاء - امرأة من قومه - السوق (ولاية الحسبة)، فدل هذا على جواز توليتها الحسبة، فيقاس عليها القضاء؛ بجامع أن كلاًّ منهما ولاية عامة.

    الدليل الخامس:
    قياس القضاء على الإفتاء، فكما أن المرأة يجوز لها أن تكون مفتية، فإنه يجوز لها أن تكون قاضية؛ بجامع أن كلاًّ من الإفتاء والقضاء مظهر لحكم الشرع.

    الدليل السادس:
    أن القاضي أجيرٌ وعامل للأُمة كباقي الموظفين، والأجير يجوز أن يكون رجلاً، كما يجوز أن يكون امرأة؛ لقوله - تعالى -: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فالقاضي يخبر عن الحكم الشرعي، والحاكم هو المنفذ فعليًّا؛ ولذا ينطبق عليه تعريف الإجارة، وهو: عقد على منفعة بعوض[50].
    جبران
    جبران


    عدد المساهمات : 66
    تاريخ التسجيل : 31/05/2010

    حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء Empty رد: حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء

    مُساهمة من طرف جبران 11.08.10 14:51

    الفصل الثالث
    في مناقشة أدلة المذاهب
    أولاً: مناقشة أدلة أصحاب المذهب الأول:
    1- أما استدلالهم بالآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وأن الآية الكريمة حصرت القِوَامةَ في الرجل - فلا يصح تولية النساء؛ فنوقش من ناحيتين:
    الناحية الأولى:
    أن الآية الكريمة ليست في محل النزاع؛ لأن المراد منها القوامة الخاصة، وهي القوامة الأسرية التي أشار إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، حيث قال: ((والرجل راعٍ في أهله، ومسؤول عن رعيته))، وهي أن يطاع، ويستأذن، ويملك حق التأديب.

    وليس المراد هنا القوامة العامة التي تشمل القضاء وغيره، والذي يدل على أن المراد بالقوامة: القوامة الأسرية - ثلاثةُ أمور:
    أ- سبب نزول الآية؛ فقد روي عن الحسن أنه قال: "جاءت امرأة إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقالت: إن زوجي ضربني، قال: ((بينكما القصاص))، فأنزل الله - عز وجل -: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أنزل الله - تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}".
    إذًا؛ فسبب النزول يدل على أن الآية نزلت في الولاية الأسرية، بقوامة الرجل على المرأة بالتأديب.

    ب- أن الآية نازلة في الولاية الأسرية؛ لأن تركيب الآية وسياقها يدلان على ذلك؛ مِن ذلك قولُه - تعالى -: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] يدل على النفقات والمهر، كما فيها إشارة إلى ما يجب للزوج على زوجته من طاعة وأمانة؛ وهو قوله - تعالى -: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]، وفيها إشارة أيضًا إلى السلطة المخولة للأزواج على زوجاتهم، وهو قوله - تعالى -: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]؛ وعلى هذا فالآية في الولاية الأسرية، وليست في الولايات العامة.

    ج- أن المرأة تصلح لأنْ تكون وصية على اليتامى، وناظرة في مال الوقف، وهذا يدل على صلاحية المرأة للولايات الخاصة؛ لأنها قادرة على أن تقوم بأمور هذه الولاية، فجاز إسنادها إليها، فالآية إذًا لا تفيد العموم؛ ومن هنا يجوز إسناد الولايات العامة إليها، ما دام مناط الحكم - وهو القدرة - متحققًا، ولا تأثير لعموم الولاية أو خصومها، بعد أن تتحقق علة الحكم، وهي قدرة المرأة على ممارسة الولاية، إلا أن الإجماع قام على عدم جواز تولي المرأةِ رئاسةَ الدولة وما هو بمثابتها، استنادًا إلى النص الوارد في رئاسة الدولة، المانع من تولي المرأة إياها، ولولا قيام الإجماع، لجاز تولية المرأة الولاياتِ العامةَ أيضًا.

    الناحية الثانية:
    لو سلمنا جدلاً أن الآية تفيد العموم، فإن الاستدلال بها لا يسلم؛ لأن الدليل يجب أن ينتج تمام الدعوى، أما هنا فقد أنتج أخص من الدعوى، وبيان ذلك: أن الدعوى هي أنه لا يجوز تولي المرأة القضاء مطلقًا، لا على الرجال، ولا على النساء، ولا على الصغار، والدليل هنا لا يدل إلا على منع توليتها على الرجال، أما الصغار والنساء، فلم يَرِد الدليل عليهم؛ وبهذا يكون الدليل غير منتج لتمام الدعوى، فلا يصح الاستدلال به[51].

    الرد على هذه المناقشات:
    أما الناحية الأولى - وهي أن الآية الكريمة ليست في محل النزاع - فيرد عليهم بما يلي:
    أ- أما المناقشة بسبب النزول، وأنه يدل على تخصيص الآية، فيجاب بأن أكثر العلماء - والمعتمد عند الأصوليين – على: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأما التخصيص بسبب النزول، فلا يسلم إلا على رأي ضعيف[52]، وأيضًا فإن حذف متعلق القوامة يؤذِن بعمومها.

    ب- وأما المناقشة - بأن الآية فيها ما يشير إلى الولاية الخاصة، وهي ولاية الأسرة - فيجاب عنها بأن مثل هذا لا يكون مخصصًا؛ لأنه من باب إفراد فرد من أفراد العام، وهذا يعني تخصيص بعض العام بالذِّكر، أو بعبارة أخرى: النص على بعض ما تضمنه هذا العام، والحكم عليه بما حكم على العام، وهذا لا يكون تخصيصًا عند جمهور العلماء، والدليل على ذلك: أن الحكم على الواحد لا ينافي الحكم على الكل؛ لأنه لا منافاة بين بعض الشيء وكله؛ بل الكل محتاج إلى بعضه، وإذا لم توجد المنافاة، لم يوجد التخصيص؛ لأن المخصص لا بد أن يكون منافيًا للعام[53].

    ج- وأما المناقشة - بأن الآية لا تفيد العموم - فيجاب عنها: بأن حاصلها يرجع إلى معارضة دليلٍ، بقياس الولايات العامة على الولايات الخاصة، وهذا القياس باطل؛ لأنه مع الفارق، حيث إن الولاية الخاصـة لا تحتاج إلا إلى مجرد القدرة، بخلاف الولايات العامة، فإنها تحتاج إلى قدرة عالية، تتناسب وأعباءَ هذه الولاية، ومن البدهي أن مَن يقدر على عمل بسيط، قد لا يقدر على عمل معقد، فإن جاز للمرأة أن تشرف على يتيم، أو تتصرف في ربع دار موقوفة مثلاً، فهذا لا يكون دليلاً على أنها قادرة على تسلم الولايات العامة المتشعبة والمعقدة.

    إذًا؛ فمناط الحكم في الولايات الخاصة - وهو مجرد القدرة - لا يوجد في الولاية العامة، التي تحتاج إلى القدرة العالية، لا مجرد القدرة، هذا إذا سلمنا أن مناط الحكم في تولي الولايات، هو القدرة، لكن لا نسلم هذا؛ لأنه يشترط في العلة التي هي مناط الحكم، أن تكون وصفًا، ظاهرًا، منضبطًا، والقدرة ليست كذلك؛ لأنها وصف مضطرب، ليس له مقاييس أو موازين مضبوطة، وإذا نظرنا في الحديث الشريف: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))، فإنا نرى أن العلة التي جُعلت مناطًا لعدم الفلاح هي الأنوثة؛ لأنها مظِنة الإخلال أو عدم الكمال في القيام بالأعباء العامة؛ وعلى هذا فإن وُجدت الأنوثة، فقد وُجد المانع من تولي الولايات العامة، ومنها القضاء، ولولا أن الإجماع قد قام على جواز تولية المرأة الولايات الخاصة، لقلنا بعدم جواز أن تسند الولايات الخاصة إلى المرأة[54].

    وبهذا يثبت أن الآية في محل النزاع، وليسـت خاصة في الولاية الأسرية، حتى لو سلمنا جدلاً بأن الآية مقصورة على المسؤولية في الأسرة، لكانت أبلغ في الدلالة على عدم صلاحية المرأة لتولي القضاء؛ لأنها لو عجزت عن إدارة أسرة، تشتمل على جماعة محدودة، فالأَولى أن تكون عاجزة عن إدارة شؤون الناس، وحلِّ مشاكلهم، والنظر في مصالحهم، والفصل في منازعاتهم، والحكم في خصوماتهم[55].

    وأما الناحية الثانية - وهي أن الاستدلال غير صحيح؛ لأنه لا ينتج تمام الدعوى - فيرد عليها بما يلي:
    1- أن الدليل أنتج مساوي الدعوى؛ وذلك للمساواة بين الرجال والنساء والأحداث، أما القضاء فلا يوجد فارق بين الرجال وغيرهم في مجال الخصومة والتقاضي، ومؤاخذتهم على ما يصـدر منهم، فإلحاق النساء والصغار بالرجال، إنما هو قياس بمعنى الأصل، أو هو قياس جلي.

    2- أما استدلال الجمهور بحديث: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))، فنوقش بأنه لا يصلح للاسـتدلال؛ وذلك لأنـه وارد في غير محـل النزاع؛ لأن الحديث وارد في الولايـة العظمى، وهي رئاسة الدولة، فلا يدل على ولاية القضاء، ويكون الدليل مقصورًا على تلك الولاية، والدليل على أن الحديث وارد في الإمامة العظمى أمران:
    الأمر الأول: سبب ورود الحديث، وهو أنه ورد في نوران بنت كسرى، عندما تولت منصب الملك في بلاد فارس بعد موت أبيها، فجاء نص الحديث مبينًا حكمَ مثل هذه التولية.
    الأمر الثاني: أن كلمة ((أمرهم)) الواردة في الحديث، صيغة عموم وشمول، والأمر الذي يعم ويشمل جميعَ شؤون الدولة، هو رئاسة الدولة، فيكون المنع مقصورًا على الإمامة العظمى.

    الرد على هذه المناقشة:
    أ- أما بالنسبة للمناقشة بسبب ورود الحديث، فقد مر معنا من قبل: أن التخصيص بسبب النزول، لا يسلم إلا على رأي ضعيف، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    ب- وأما بالنسبة للمناقشة بعموم كلمة ((أمرهم)) الواردة في الحديث؛ فيجاب عنها بأن هذه الكلمة من قبيل المفرد المضاف إلى معرفة، وهو صيغة من صيغ العموم؛ كما هو الراجح عند علماء الأصول، وقد أجمع الأصوليون على: أن الحكم الواقع على العام في أي قضية واقعٌ على كل فرد من أفراد هذا العام، فإذا قال شخص: جاء أولادي، كان هذا في قوة قضايا بعدد أولاده، فكأنه قال: جاء فلان، وجاء فلان، وهكذا.

    وعلى هذا؛ فيكون الحديث بقوة قضايا بعدد ولايات الدولة العامة، فكأنه قال: لن يفلح قوم ولوا الخلافةَ امرأةً، ولن يفلح قوم ولوا الوزارة امرأة، ولن يفلح قوم ولوا القضاء امرأة، وهكذا إلى سائر ولايات الدولة، وبهذا نصل إلى أن الحديث لا يمكن حصره في الولاية العظمى فقط؛ بل يكون في سائر الولايات[56].

    3- وأما استدلالهم بحديث: ((القضاة ثلاثة))، وأن الحديث نص على أن القاضي يكون من الرجال، ودل بمفهومه على منع المرأة - فنوقش بما يلي:
    أ- أن هذا الاستدلال من قبيل الاستدلال بمفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة ليس دليلاً متفقًا عليه عند جميع العلماء، فلا يستدل به لمذهب على مذهب، خاصة وأن المخالفين - سواء أكانوا حنفية أم كانوا ظاهرية - لا يصحِّحون العمل بالمفهوم المخالف، وفي هذا يقول الكردري من الحنفيـة: "تخصيص الشيء بالذِّكر لا يدل على نفي الحكم عمَّا عداه في خطابات الشارع"[57]، ويقول ابن حزم الظاهري: "هذا القول الذي لا يجوز غيره، وتمام ذلك في قول أصحابنا الظاهريين: إن كل خطاب وكل قضية، فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكمًا في غيرها"[58].

    ب- أن تخصيص الرجل بالذِّكر، لا يفيد منع المرأة مِن تولي القضاء؛ لأنه قد جيء به لبيان الغالب، لا للتخصيص، ولأن خطابات الشارع، سواء خوطب بها الرجال، أو خوطب به النساء، فإن الجميع مخاطب بها؛ إلا إذا وجد قرينة تمنع دخول غير المذكور في الحكم، فيختص به، ولا قرينة هنا تمنع من دخول النساء، فالحديث عام في الرجال والنساء معًا، والحديث الذي معنا غاية ما يفيد - كما قال في "عون المعبود" - أنه لا ينجو من النار من القضاة إلا مَن عرَف الحق وعمِل به، فإن من عرف الحق ولم يعمل به، فهو ومَن حَكَمَ بجهلٍ سواء في النار،[59] فلا يصلح الحديث للاحتجاج على عدم جواز تولية المرأة.

    4- وأما استدلالهم بالإجماع، وأنه قام على منع المرأة مِن تولي القضاء - فنوقش بما يلي:
    أ- لا يمكن لنا أن نعلم يقينًا حدوث الإجماع، فربما وجد مخالف في ذلك العصر ولم تصلْنا هذه المخالفةُ، ومن أين لنا أن نعلم أن ابن جرير الطبري غير مسبوق إلى ما قاله؟! وعلى تسليم إمكانية تحقق الإجماع، فإن الإجماع هنا لا يصح الاستدلال به؛ لأنه لم يثبت إجماع على منع المرأة من تولي الولايات العامة؛ فقد ثبت: أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - قد تولت قيادة جيش، وتزعمت الثورة ضد علي بن أبي طالب، ومعها من خيرة الصحابة أمثال: الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله، وغيرهما، ولم ينكروا عليها، فهذا دليل على عدم صحة دعوى الإجماع، وفي نفس الوقت دليل على جواز تولية المرأة القضاء؛ لأنه أقل خطرًا من قيادة الجيوش، وتزعم الثورات[60].

    والإجابة عن المناقشة:
    أجيب عن منع إمكانية تحقق الإجماع بأنه بعد بذل الجهد في البحث، والتحري عن المخالف لرأي الجمهور - لم نعثر إلا على قول بالجواز منسوب إلى ابن جرير، وقد سبق مناقشة هذا القول في محله.

    الرد على هذه الإجابة:
    أ- من الممكن الرد على هذه الإجابة بأنه قد نُقل عن الحسن البصري: أنه قال بجواز تولي المرأة القضاء مطلقًا،[61] وقد ثبت عن عدد من كبار علماء المسلمين النقلُ عن ابن جرير الطبري، وهم موضع الثقة والاطمئنان، كما ثبت هذا القول عن ابن حزم، فابن حزم وابن جرير مسبوقان بقول الحسن البصري في جواز تولية المرأة القضاء.

    ب- ويجاب عن منع صحة الاستدلال بالإجماع لفعل السيدة عائشة: بأن السيدة عائشة لم تخرج زعيمة لثورة، ولا قائدة لجيش، إنما خرجت بتأثير عدد من الصحابـة، وما كان قصدها من الخروج إلا الإصلاح، فلم تكن زعيمة لثورة؛ لأنه لم ينقل عن أحد من المؤرخين أن عائشة ومَن معها نازعوا عليًّا على الخلافة، وأما أنها لم تخرج قائدة لجيش؛ لأن الذين طلبوا منها الخروج كان مرادهم التوفيق بين الناس، وأن يزيلوا ما بينهم من أسباب الخلاف، ورأوا أن وجود السيدة عائشة معهم - وهي أم المؤمنين - أدعى إلى انضمام الناس إليهم.

    يقول ابن العربي: "وأما خروجها إلى حرب الجمل، فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه مِن عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا ببركتها الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتضيـة بالله في قولـه: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وبقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]".

    ثم كان ما كان من الحرب والفتنة؛ بسبب دعاة الفتنة، ولو سلمنا جدلاً أنها خرجت قائدة الجيش، أو زعيمة لثورة، فإن هذا كان اجتهادًا منها، وقد ثبت رجوعها عنه، وخطَّأت نفسها فيما ذهبت إليه، فلا حجة في فعلها؛ فقد روي أنه ذُكر لعائشة يوم الجمل، قالت: "وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي"[62].

    5- وأما استدلالهم بالقياس - وهو قياس القضاء على الإمامة العظمى بجامع الولاية في كل - فنوقش كما يلي:
    إن وصف الأنوثة يصلح علة للمنع من رئاسة الدولة؛ وذلك لخطورة هذا المنصب، واحتياج القائم به إلى الثبات والحزم، والهيبة والعزة، وهي أمور لا تتوافر في المرأة غالبًا، حتى إن بعض الرجال تنهار أعصابهم إذا تعرضوا لموقف من المواقف التي تتعرض لها بعض الدول، فكيف تكون المرأة في مثل هذا الموقف؟

    ولكن إن صح كون الأنوثةِ علةً في رئاسة الدولة، فلا يلزم صحته في سائر الولايات العامة ومنها القضاء؛ بل يكون وصف الأنوثة هنا لا أثر له؛ إذ قد ثبت بالإجماع أن الأنوثة لا تأثير لها في الولايات الخاصة، فكذلك القضاء؛ لأن مناط الحكم هنا هو القدرة لا غير.

    الرد على هذه المناقشة:
    إن القول بالفارق بين القضاء ورئاسة الدولة نوعٌ من التحكم بدون دليل؛ لأن كلاًّ منهما من الولايات العامة، فلا يصح الاعتراض به، ثم كيف يكون القضاء مختلفًا عن رئاسة الدولة، ثم يكون مساويًا للوصاية على يتيم مثلاً؟

    والواقع أن هذا تحكم محض لا يستند إلى دليل، وهذا مرفوض في البحث العلمي،[63] ولو سلمنا جدلاً بوجود الفارق بين القضاء ورئاسة الدولة، فإن الأنوثة مظنة الإخلال، وعدم القيام بكامل الأعباء، وعلى هذا فلا يجوز تولية المرأة أي ولاية من الولايات، حتى ولو كانت خاصة، لكن الإجماع قائم على جواز توليها للولايات الخاصة، فاستثنيت من عموم الدليل.

    ثانيًا: مناقشة أدلة أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية -:
    وقد استدلوا على صحة ما قضت به في غير مسائل القصاص والحدود، وكان استدلالهم بقياس القضاء على الشهادة؛ بجامع الولاية في كل، ونوقش هذا الدليل بما يلي:

    أن الولاية في الشهادة تغاير الولاية في القضاء، وهذا يستلزم أن تكون الأهلية في الشهادة مغايرة للأهلية في القضاء، فيكون هذا القياس قياسًا مع الفارق؛ فلا يصح الاستدلال به، والذي يدل على أن ولاية الشهادة تغاير ولاية القضاء ثلاثة أمور:
    1- أن الولاية في القضاء عامة وشاملة، بخلاف الولاية في الشهادة، فإنها قاصرة خاصة، وليس كل من يصلح للأمور الخاصة يصلح للأمور العامة.
    2- أن ولاية القضاء تلزم الحق بدون واسطة، بينما ولاية الشهادة لا تلزم الحق إلا بحكم القاضي بها.
    3- أن شهادة المرأة تقبل حالَ الضرورةِ والحاجة، أما القضاء فليس هناك حاجة تدعو إلى ترك الرجال وتولية النساء.
    4- أن أدلة الجمهور أفادت المنع، والمنع يقتضي عدم الجواز، وهذا يستتبع نفي الصحة، وعدمُ صحة حكمها يستلزم عدم نفاذ ما قضت به.

    الرد على هذه المناقشة:
    وفي الرد على هذه المناقشة يقول الكمال ابن الهمام: "والجواب: أن ما ذكر غاية ما يفيد منعُ أن تستقضي وعدمُ حِلِّه، والكلام فيما لو ولِّيت، وأثم المقلد... فقضت قضاء موافقًا لدين الله: أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهض الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله، إلا أن يثبت شرعًا سلب أهليتها، وليس في الشرع سوى نقصان عقلها، ومعلوم أنه لم يصل إلى حد سلب ولايتها بالكلية، ألا ترى أنهـا تصلح شاهدة؟ وذلك النقصان بالنسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى الجنس؛ فجاز في الفرد خلافـه... ولذلك النقص الغريزي نسب - صلى الله عليه وسلم - لمن يوليهن عـدم الفلاح، فكان الحديث متعرضًا للمولِّين ولهن بنقص الحال، وهذا حق، لكن الكلام فيما لو ولِّيت فقضت بالحق: لماذا يبطل هذا الحق؟"[64].

    الإجابة على هذا الرد:
    ويجاب عما ردَّ به الحنفية بأنه لم يقل أحد بسلب ولايتها في الولايات الخاصة، وإنما النزاع في توليتها الولايات العامة، ومن الواضح أنه لا يلزم من صلاحيتها للولايات الخاصة، صلاحيتها للولايات العامة، كما أنه لا فارق بين الإمامة العظمى والقضاء في مناط الحكم، وهو الأنوثة؛ لأنه واحد فيهما[65].

    ثالثًا: مناقشة أدلة أصحاب المذهب الثالث:
    وذهب أصحاب المذهب الثالث إلى جواز تولية المرأة القضاء مطلقًا، دون شرط أو قيد، واستدلوا بأدلة، نوقشت كالتالي:

    1- أما استدلالهم بأن الأصل في الحكم القدرة على الفصل؛ فيناقش بما يلي:
    أ- أن المرأة غير قادرة على الفصل مقدرة تامة؛ وذلك بسبب طبيعتها، ولأنها غالبًا ما تنساق وراء عاطفتها، وما يعتريها من حمل وولادة وإرضاع، يؤثر في فهمها لحجج المتخاصمين، وهذا بدوره يؤثر في تكوين الحكم الكامل لديها.

    ب- أن هذا القول منقوض برئاسة الدولة، إذ إن بعض النساء قد تكون لهن المقدرة التامة على رئاسة الدولة من بعض الرجال، ومع ذلك فإن الإجماع قائم على منعها من تولي هذه الولاية.

    الرد على هذه المناقشة:
    يمكن الرد على هذه المناقشة: بأن رئاسة الدولة مستثناة هنا؛ للإجماع المستند إلى نص، ولولا هذا الإجماع لجازت تولية المرأة الإمامة العظمى.

    2- وأما استدلالهم بقياس القضاء على الشهادة؛ فيناقش بأنه قياس مع الفارق؛ لشمول ولاية القضاء، ولأنها تلزم الحق بدون واسطة، بخلاف ولاية الشهادة، كما مر بيانه سابقًا عند مناقشة أدلة الحنفية.

    3- وأما استدلالهم بقياس القضاء على الولاية الأسرية، فيناقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الولاية الأسرية خاصة، وولاية القضاء عامة؛ فلا يصح الاستدلال بالقياس.

    4- وأما استدلالهم بقياس القضاء على الحسبة؛ لفعل عمر كما سبق - فنوقش بما يلي:
    أ- أن فعل عمر ليس حجة، كما هو الراجح عند علماء الأصول؛ لأنه لا حجة في كلام أحد أو فعله؛ سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَدَّعِ أحد الإجماع، أو عدم وجود المخالف، حتى يكون إجماعًا تثبت به الدعوى.

    ولو سلمنا حجية فعل عمر، فإن هذا الحديث لم يثبت عنه، يقول ابن العربي في "تفسيره": "وروي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، وهذا لا يصح، فلا تلتفتوا إليه، إنما هو من دسائس المبتدعة"[66].

    على أنه يستبعد صدور مثل هذا الفعل عن عمر؛ لأمرين:
    الأول: أنه مخالف للحديث المتفق على صحته، ولا يعقل أن يخالف عمرُ الحديثَ.
    الثاني: على فرض عدم وصول هذا الحديث لسيدنا عمر، فإن فكرة الحجاب صدرت أساسًا عن عمر، حيث أشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب، فنزلت آية الحجاب وصارت تشريعًا، فهل يعقل أن ينقض عمر هذه الفكرة بتعيين امرأة تمكث طوال يومها تخالط الرجال في الأسواق، وعنده من الرجال مَن يقوم بحمل هذا العبء وزيادة؟![67].

    5- وأما استدلالهم بقياس القضاء على الإفتاء، فيناقش بأنه قياس مع الفارق؛ فلا يصلح الاستدلال به، والفارق من ناحيتين:
    الناحية الأولى: أن القضاء ولاية، بخلاف الفتيا، فإنها ليست ولاية.
    الناحية الثانية: أن حكم القضاء ملزم، أما الفتيا فلا إلزام فيها، فيجوز للمستفتي أن يأخذ بالحكم أو يتركه.

    الرد على هذه المناقشة:
    ويرد على هذه المناقشة بأن الفتوى قد تكون ملزمة، وذلك فيما إذا لم يوجد إلا واحد يصلح للإفتاء، ومع ذلك لم تُستثن هذه الحالة من أهلية المرأة، فتكون الفتيا ولاية في الجملة.

    الإجابة على الرد:
    ويجاب على هذا الرد بأن الإلزام هنا للضرورة، ومن المعروف أن الضرورة لها أحكامها الخاصة التي تخالف أحكام حالة الاختيار، وموضوع الخلاف مفروض في حالة الاختيار؛ ولهذا لو وجدت حالة الضرورة في قضاء المرأة، بأن ولاها سلطان ذو شوكة، فإنه ينفذ قضاؤها؛ لئلا تتعطل مصالح الناس، وبهذا تكون حالة الضرورة في قضاء المرأة حالة استثنائية[68].

    6- وأما استدلالهم بأن القاضي أجير عند الدولة، ولا فرق بين الرجال والمرأة في الإجارة - فيناقش بأنه قياس مع الفارق، فلا يقاس القضاء على تولي المرأة في عصرنا الحاضر بعض الأعمال الإدارية العامة؛ لأن القضاء له طبيعة خاصة، ليست من جنس العمل الإداري العادي، كما أن العمل الإداري يخضع في النهاية لرقابة القضاء، أما عمل القاضي فيكتسب الحجة، ويصبح عنوان الحقيقة، ولا رقيب عليه، فقوله نهائي بات.


    الفصل الرابع
    في الترجيح والاختيار
    اختلف العلماء المعاصرون في ترجيح مذهب معين - في حكم تولية المرأة القضاء - بين مؤيد ومعارض، حيث جوز بعضهم توليتها القضاء مطلقًا، من حيث النظر إليها ذاتيًّا؛ إذ إن بعض النساء لهن القدرة على القضاء، أو حتى على إدارة شؤون البلاد، أكثر من الرجال، ولتطور إدراك المرأة في العصر الحديث عنه في سالف العصور، فلماذا نمنع مثل هؤلاء النسوة مِن تولي مثل هذا المنصب؟[69].

    كما ذهب بعض الكتَّاب المحدَثين إلى: أنه يصح تولية المرأة في القضايا التي يكون فيها طرفا الخصومة من النساء، بشرط أن يكون ذلك في غير مسائل الحدود والقصاص، ووجهة نظره في هذا أن القضاء هو إظهار حكم الشرع في قضية من القضايا، لكنه يخالف الفتوى بأن القضاء فيه إلزام، ولكن هذا الإلزام بعد حكم القاضي إنما جاء من الشرع، لا من القاضي، وواسطة التنفيذ هنا هو الحاكم، فأشبه الفتوى[70].

    غير أن معظم الباحثين والعلماء المعاصرين ذهبوا إلى ترجيح مذهب الجمهور، القائل بمنع تولية المرأة منصب القضاء مطلقًا؛ وذلك لأسباب عديدة ذكروها، نجملها فيما يلي:
    السبب الأول: أن معظم أدلة المخالفين مبنية على القياس، والقياس هنا لا يقوى على مواجهة النصوص من الكتاب والسنة التي استدل بها الجمهور؛ لأنه لا قياس في معرض النص، وخاصة إذا لم توجد ضرورة تدعو إلى ترك هذه الأدلة والخروج عليها[71].

    السبب الثاني: أن شهادة المرأة فيها الكثير من القيود، حيث إنها لا تُقبَل شهادتها في القصاص والحدود، وإنما تقبل شهادتها فيما لا يطلع عليه إلا النساء للضرورة، وأيضًا لا تقبل شهادة المرأة منفردة، ولو كان معها ألف امرأة مثلها؛ ما لم يكن معهن رجل، فلا تتولى القضاء من باب أولى[72].

    السبب الثالث: لو جاز ذلك لما خلا جميع الزمان، لكنه لم يُؤثَر منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نهاية الخلافة الإسلامية، أنه تولت امرأة هذا المنصبَ، على اختلاف آراء العلماء في ذلك، واختلاف الأئمة وولاة التعيين من عصر إلى عصر.

    السبب الرابع: أن القضاء قد يتطلب أن تخالط المرأة الرجالَ، فيما لو وليت هذا المنصب، وهذا مما نهى عنه الشرع، وما يؤدي إلى المحظور محظورٌ.

    السبب الخامس: أن القضاء قد يتطلب خلوة القاضي بمعاونيه، أو الشهود، أو الخصوم، أو الوكلاء، أو الخبراء، فلو كان القاضي امرأة، والمذكورون من الرجال، لكانت الخلوة بهم محرمة، فيتعطل جانب كبير من القضاء.

    السبب السادس: أن المرأة بتكوينها النفسي والعاطفي، قد تضعف عن النظر في جريمة من الجرائم، فقد نشرت صحيفة الاتحاد التي تصدر في أبو ظبي، يوم الثلاثاء الموافق للثالث والعشرين من شهر شباط في سنة 1988م: أن قاضية في روما أصيبت بالإغماء، عند سماع تفاصيل جريمة قتل رهيبة حدثت في إيطاليا، قام فيها المجرم بتقطيع أوصال المجني عليه قبل أن يفارق الحياة، ولك أن تتصور ما يحدث في جلسة قضاء، عندما تصاب القاضية بالإغماء.

    السبب السابع: أن سماع تفاصيل الشهود لوصف جريمة الزنا، يؤدي إلى إيذاء مشاعر المرأة، وخدش حيائها، وجرح أنوثتها.


    الخاتمة
    وفي نهاية المطاف أذكر أهم النتائج المستخلصة من البحث، أجملها فيما يلي:
    1- اختلف العلماء في حكم تولية المرأةِ القضاءَ؛ وذلك تبعًا لاختلافهم في الشروط المؤهلة لتولي هذا المنصب.

    2- ذهب الجمهور إلى: أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء، في مقابل قول الظاهرية وابن جرير الطبري وغيرهم، بأنه تجوز توليتها القضاء مطلقًا.

    3- بعد التحقيق في مذهب الحنفية، تبيَّن أنهم يقولون بجواز قضائها مع الإثم، وقالوا: إن قضاءها ينفذ بشرطين:
    أ- أن يكون قضاؤها فيما تصح فيه شهادتها، وهو كل شيء ما عدا الحدود والقصاص.
    ب- أن يوافق قضاؤها الحق.

    4- اختلف المتأخرون في نسبة قول ابن جرير الطبري، حيث نُقل عنه جواز تولية المرأة القضاء مطلقًا، فصحح نسبته البعض، ومنعها آخرون، كما ذهب بعضهم إلى أن قول ابن جرير - وإن ثبت - يعتبر خلافًا لا اختلافًا، فلا يعتد به؛ لمخالفته الإجماع.

    5- استدل الجمهور بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والإجماع، والقياس، والمعقول.

    6- واستدل الحنفية على نفاذ قضائها، بقياس القضاء على الشهادة؛ بجامع الولاية في كل، كما استدلوا على التأثيم بالسنة النبوية الشريفة.

    7- كما استدل الظاهرية ومَن معهم بالقياس والمعقول، فاستدلوا بخمسة أقيسة، وهي: قياس القضاء على الشهادة، وعلى الولاية الأسرية، وعلى الحسبة، وعلى الإفتاء، وعلى الإجارة.

    8- بعد سرد الأدلة ومناقشتها، اختلف العلماء[73] المعاصرون في ترجيح مذهب على مذهب، فرجح بعضهم مذهب الظاهرية، وبعضهم رجح قضاءها في مسألة جزئية، ورجح البعض الآخر مذهب الجمهور، مع ذكر كلِّ مرجحٍ بعضَ الأسباب التي تقوي هذا الترجيح.



    منقول
    رياض الحمادي
    رياض الحمادي


    عدد المساهمات : 47
    تاريخ التسجيل : 20/06/2010

    حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء Empty رد: حكم تولي المرأة شؤؤن القضاء

    مُساهمة من طرف رياض الحمادي 12.08.10 14:51


    الله يعطيك العافية وتقبل مروري

      الوقت/التاريخ الآن هو 31.10.24 17:29