مبدأ لا مسؤولية بدون خطأ
للدكتور براء منذر كمال
أستاذ القانون الجنائي الدولي بجامعة تكريت
للدكتور براء منذر كمال
أستاذ القانون الجنائي الدولي بجامعة تكريت
المقدمة
في العصور القديمة وفي ضل التشريعات التي تتسم بالقسوة والصرامة كانت المسؤولية الجنائية تثار بمجرد ارتكاب المتهم للفعل المحظور، أو امتناعه عن تنفيذ الفعل المفروض ،وقيام العلاقة السببية بين النتيجة التي حصلت وبين ذلك الفعل أو الامتناع.فالركن المعنوي كان له دورٌ ضئيل أو معدوم في بعض المجتمعات.
ولكن ومع تطور التشريعات الجنائية وبعد نضال طويلة خاضت غماره البشرية تمخض الفكر الجنائي عن اشتراط الخطأ لقيام المسؤولية الجنائية، فلابد لمساءلة الشخص عن ما ارتكبه من فعل مؤثم يجب إثبات القصد الجنائي لديه (الخطأ العمدي) أو الخطأ غير العمدي ،فإذا لم يثبت ارتكابه أي خطأ فلا مسؤولية ولا عقاب عليه.
وهكذا فإن المسؤولية الجنائية أصبح من الضروري لقيامها ثبوت خطأ بمعناه الواسع (الخطأ العمدي أو الخطأ غير العمدي)،وأصبح للركن المعنوي للجريمة دورٌ بارز ومهم في قيام تلك المسؤولية.
وقد يخلط البعض بين مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص، فالمبدأ الأخير يقضي بأن الجرائم والعقوبات لها مصدر واحد هو النص القانوني ، أو أن يكون قراراً مبنياً على نص قانوني، فلا يملك القاضي تجريم مالم يرد بتجريمه أو توقيع عقوبة لم يرد بها نص ولا يجوز له القياس في دائرة التجريم والعقاب.وبالتالي فإن التصرفات التي تخرق القواعد الاجتماعية المتعارف عليها سوف لن تدخل في نطاق التجريم والعقاب مالم يتدخل المشرع ويجرمها ، أما قبل صدور النص ونفاذه فإنها تبقى في دائرة الإباحة وأن ثبت قيام الشخص بارتكاب مادياتها وثبوت الخطأ بحقه.فتعاطي الخمر في العديد من البلدان الإسلامية يعد مباحاً بالرغم من تحريمه شرعاً ،وبالتالي فإن ثبوت تعاطي الشخص للخمور في تلك البلدان لايعد جريمة وإن ارتكبها عمداًً.فلابد أولاً من صدور النص ونفاذه ومن ثم البحث في إثبات أركان الجريمة لمساءلة مرتكبها.
في حين أن مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ، يعد مرحلة لاحقة، فبعد التثبت من أن التصرف يجرمه القانون ، يأتي البحث عن أركان الجريمة ، ومن ضمنها البحث عن خطأ من اقترف السلوك المجرم ،فإذا ثبت ارتكابه لماديات الجريمة فإن ذلك لا يكفي لقيام مسؤوليته ، مالم يثبت توافر خطأه بالمعنى الواسع ، أي أنه لابد من ثبوت القصد الجنائي بحق ، أو ثبوت خطأه غير العمدي ، فإذالم يثبت خطأه على النحو المتقدم فلا يسأل جنائياً.
لقد انقسم الفقه الجنائي حول ما تقدم فذهب فريقٌ منهم إلى إطلاق عبارة "قاعدة لا مسؤولية جنائية بدون خطأ"وحجتهم في ذلك أن لكل قاعدةً استثناءات ، وهذه القاعدة ترد عليها استثناءاتٌ متعددة لعل من أهمها ما يقرره المشرع من قيام المسؤولية الجنائية في بعض الجرائم الاقتصادية والمخالفات بمجرد ثبوت الركن المادي بحق مرتكبها وهو ما يعرف فقها " بالجرائم المادية" ،وكذلك الحال بشأن المسؤولية الجنائية عن النتائج المحتملة ،والتي يلقي المشرع وزرها على عاتق الشريك وإن لم يبدر منه خطأً جنائياً.
وذهب فريق ثانً –نؤيده- إلى إطلاق عبارة "مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ" وحجتهم في ذلك أن هذا المبدأ لا يمكن خرقه أو الخروج عنه ولا ترد عليه أي استثناءات،وحتى ما يقرره المشرع من مسؤولية في بعض الجرائم المادية ، أو المسؤولية عن النتائج المحتملة، فإن الخطأ فيها مفترضٌ بحق مرتكب الفعل .
وعلى هدي مما تقدم فلابد للتعرف على مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون الخطأ من البحث أولاً في مفهوم الخطأ ، ومن ثم البحث في المسائل التي يعدها البعض خروجاً عن المبدأ.
مفهوم الخطأ (مدلوله)
الخطأ الجنائي هو جوهر الركن المعنوي ، ويتمثل هذا الخطأ في إتجاه معين لإرادة الجاني فإذا أتخذ صورة العمد سمي بالقصد الجنائي وإذا أتخذ صورة الخطأ سمي بالخطأ غير العمدي ،وبذلك فإن كلا من القصد والخطأ يقوم على اتجاه إرادي منحرف مخالف للقانون ،فهو ينطوي على إرادة آثمة بالنظر إلى الوجهة التي انصرفت إليها.
وهكذا فإن الخطأ بمفهومه الواسع من الناحية الجنائية فكرة قانونية وأخلاقية في الوقت ذاته ، فلا يمكن توجيه اللوم إلى الجاني عن طريق العقاب إلا ضد من صدر عنه السلوك المجرم ، كما أن الجزاء الجنائي لا يحقق أثره في الردع العام إلا إذا شعر الناس أن هذا الجزاء لا يلحق إلا بمن توافر لديه خطأ معين تسبب في وقوع الجريمة وسواء كان ذلك الخطأ عمدياً أم غير عمدي .
وعلى هدي مما تقدم فإننا سنوضح وبإيجاز أنواع الخطأ ،فأنواع الخطأ أثنين هما القصد الجرمي ، والخطأ غير العمدي ، وذهب فريق من الفقه إلى أن هناك نوعٌ ثالث وهو القصد المتعدي ، إلا أننا نرى أن النوع الأخير هو صورة من صور القصد الجنائي وليست نوعاً مستقلاً من أنواع الخطأ .
أولاً-القصد الجرمي:القصد الجرمي هو النوع الأول من أنواع الخطأ وقد عرفه المشرع العراقي في الفقرة (1) من المادة (33) من قانون العقوبات بالقـول : (( القصد الجرمي هو توجيه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفاً إلى نتيجة الجريمة التي وقعت أو أي نتيجة جرمية أخرى))
وهكذا فإن القصد الرمي يتحقق باتجاه إرادة الجاني إلى النشاط الجرمي الذي باشره وإلى نتيجة الجريمة التي وقعت أو أي نتيجة جرمية أخرى.ويتضح مما تقدم أن القصد الجنائي ينطوي على عنصرين هما الإرادة ارتكاب الجريمة والعلم بجميع عناصرها القانونية.والقصد الجرمي يقسم إلى أقسام متعددة ولإعتبارات مختلفة ، فهو يقسم من حيث عموميته إلى قصد عام وقصد خاص ،كما يقسم إلى قصد مباشر وقصد غير مباشر،وقصد محدد وقصد غير محدد ،وإلى قصد بسيط وقصد مع سبق الإصرار ،وإلى قصد مباشر وقصد إحتمالي ، بالإضافة إلى القصد المتعدي الذي يعده البعض نوعاً مستقلاً من أنواع الخطأ ،ولأهميته فسنتاوله بإيجاز.
القصد المتعدي : يتحقق هذا القصد إذا ارتكب الجاني سلوكاً إجرامياً بقصد أحداث نتيجة جرمية معينة إلا أن سلوكه هذا أفضى إلى نتيجة جرمية أشد من تلك التي سعى إليها في البداية ولم يكن يقصدها أبداً.
وقد تضمن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 العديد من جرائم القصد المتعدي من دون أن يضع نظرية عامة لها كما فعل المشرع الإيطالي ، ومن تلك الجرائم : جريمة الحريق العمد المفضي إلى موت (الفقرة 1 من المادة 342)وجريمة تعريض وسائل النقل للخطر عمداً مما ينشأ عنه موت إنسان (الفقرة 1 من المادة 354) وجريمة الضرب المفضي إلى موت (المادة 410) والتي نتحفظ على تسميتها ونفضل إطلاق تسمية الإيذاء المفضي إلى موت عليها كون الركن المادي فيها يتسع ليشمل صور متعددة من صور الإيذاء لا تقتصر على الضرب فقط ومن شأنها إحداث الموت .وكذلك جريمة الإيذاء العمد المفضي إلى عاهة مستديمة (المادة 412) ، وجريمة الإجهاض المفضي إلى موت (المادتين 417 و418 من قانون العقوبات).
ثانياً-الخطأ غير العمدي:يُراد به عدم اتخاذ الجاني واجب الحيطة والحذر الذي يقتضيه النظام القانوني وعدم حيلولته تبعاً لذلك من أن يؤدي سلوكه إلى حدوث النتيجة الجرمية. بينما يكون بوسع الشخص المعتاد إذا وجد في ظروف الفاعل أن يحول دون حدوثها .
وتعد جرائم الخطأ أقل عقاباً من الجرائم العمدية كونها أقل خطراً منها ، وأمثلتها كثيرة في قانون العقوبات العراقي ، ولعل المثال الأبرز هو جريمة القتل الخطأ (المادة 411) ،وجريمة الإيذاء الخطأ (المادة 416 ).
الخروج عن مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ
سبق وأن قلنا بان الفقه الجنائي أنقسم حول الاستثناءات التي تتضمن قيام المسؤولية الجنائية بدون خطأ ، وقلنا بأن فريقٌ من الفقه الجنائي ذهب إلى إطلاق عبارة "قاعدة لا مسؤولية جنائية بدون خطأ"وحجتهم في ذلك أن لكل قاعدةً استثناءات ، وهذه القاعدة ترد عليها استثناءاتٌ متعددة لعل من أهمها ما يقرره المشرع من قيام المسؤولية الجنائية في بعض الجرائم الاقتصادية والمخالفات بمجرد ثبوت الركن المادي بحق مرتكبها وهو ما يعرف فقها " بالجرائم المادية" ،وكذلك الحال بشأن المسؤولية الجنائية عن النتائج المحتملة ،والتي يلقي المشرع وزرها على عاتق الشريك وإن لم يبدر منه خطأً جنائياً.
في حين ذهب فريق ثانً –نؤيده- إلى إطلاق عبارة "مبدأ لامسؤولية جنائية بدون خطأ" وحجتهم في ذلك أن هذا المبدأ لا يمكن خرقه أو الخروج عنه ولا ترد عليه أي استثناءات،وحتى ما يقرره المشرع من مسؤولية في بعض الجرائم المادية ، أو المسؤولية عن النتائج المحتملة، فإن الخطأ فيها مفترضٌ بحق مرتكب الفعل .
وعلى هدي مما تقدم فإننا سنبحث في المسؤولية عن الجرائم المادية ، والمسؤولية عن النتائج المحتملة في فقرتين مستقلتين.
أولاً- المسؤولية الجنائية عن الجرائم المادية
مفهوم الجرائم المادية
الجرائم المادية هي الجرائم التّي تقوم بمجرّد ارتكاب الفعل المادي المكوّن للجريمة وإسناده إلى مرتكبها دون الحاجة إلى إثبات خطأ الجاني بالمفهوم الواسع للخطأ ( الخطأ العمدي والخطأ غير العمدي) ،وهكذا تقوم المسؤولية عن هذه الجرائم بتحقق الركن المادي لها فقط .
لقد كان لمحكمة النقض الفرنسية دورٌ بارز في بلورة فكرة الجريمة المادية فمنذ أوائل القرن التاسع عشر قضت في العديد من قراراتها بأن المخالفات وبعض الجنح البسيطة تعد جرائم مادية تقع بمجرد إثبات صدور الركن المادي للجريمة من الجاني دون الحاجة إلى إثبات الركن المعنوي في حقه.فمثلاً إذا أثبت محضر الشرطة أن قائد السيارة قد اخترق إشارة المرور الحمراء توافرت المسؤولية الجنائية للمخالف دون حاجة إلى إثبات الخطأ العمدي أو الخطأ غير العمدي لديه.ثم اتسع نطاق تلك الجرائم ليشمل إلى جانب المخالفات العديد من الجرائم الاقتصادية والجرائم الماسة بأمن الدولة والجرائم المتعلقة بقوانين العمل و قوانين المرور .
وعلى هدي مما تقدم فقد ذهب جانب من الفقه إلى القول بأن هذا النوع من الجرائم يعد خرقاً لقاعدة لا مسؤولية جنائية بدون خطأ ، فالمسؤولية تتحقق فيها من دون إسناد أي خطأ لمرتكبها، ومع ذلك يذهب جانب آخر من الفقه أن مرتكب الجريمة المادية يسند إليه خطاً مفترضاً ، وبالتالي فإن الجرائم المادية لا تعد خروجاً على مبدأ لا جريمة بدون خطأ. وبموجب الرأي الأخير فإن المشرع يقيم قرينة على خطأ مرتكب الجريمة المادية ، وعلى المتهم إثبات براءته من خلال إثبات عدم خطأه ،وهي نتيجة معكوسة لقرينة البراءة التي تفترض بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، فعبء الإثبات سينتقل من عاتق الادعاء العام ، إلى عاتق المتهم الذي عليه إثبات براءته مما نسب إليه من خطأ.
أساس المسؤولية عن الجرائم المادية
انقسم الفقه الجنائي بصدد الأساس الذي تستند إليه هذه الجرائم ، فمنهم من أسسها على عدم اشتراط الإثم الجنائي في هذه الجرائم،وذلك بناءً على أن هذا الإثم مقصود على جرائم العدوان وانتهاك القيم والحرمات دون سواها ، وإنه غير مطلوب بل وغير متصور في الجرائم القانونية الصرفة التي لا تخرج من حيث طبيعتها عن معنى المخالفات لأوامر القانون ونواهيه ، وإنه يكتفى لمسؤولية الجاني عن هذا النوع من الجرائم أن تتوافر لديه الأهلية الجنائية التي تقوم على الإدراك وحرية الاختيار،لا بل أن العميد هوريو قد نادى برأي متطرف مفادها إلى أن الجريمة المادية هي جريمة موضوعية يعاقب عليها الجاني بناءً على فعله المادي لا بناءً على رابطة معنوية بينه وبين الفعل،وعن ذلك يقول بأنه إذا سقطت زهرة من أحدى النوافذ في الطريق العام فإن المخالفة تقع في حق صاحب آنية الزهور ولو لم تتجه إرادته إلى ذلك.
وذهب جانبٌ آخر إلى تأسيسها بالاستناد إلى الخطأ الذي يتضمنه الفعل المادي ، فقالو أن الخطأ يتوافر في حق المخالف بمجرد مخالفته للقانون ،إذ أن ارتكاب ذلك الفعل ينطوي في حد ذاته على الخطأ بالنسبة للمخالف، أي أنه كلما ثبت وقوع الفعل المادي المكون للمخالفة ثبت أيضاً خطأ المخالف..
في حين ذهب جانبٌ ثالث إلى تأسيسها على أساس الخطأ المفترض ،فالمشرع يقيم قرينة قاطعة على توافر خطأ المخالف بمجرد ارتكابه للفعل المكون للمخالفة.
وذهب فريق رابع إلى أن أساس المسؤولية الجنائية عن الجرائم المادية هو الخطأ الثابت، ويذهب هذا الفريق إلى ضرورة ثبوت الخطأ الشخصي بحق الجاني وفقاًً للقواعد العامة ، وإن الجرائم المادية يقيم فيها المشرع قرينة بسيطة على توافر الخطأ ، وإنه يجوز إثبات عكس هذه القرينة ،واستدل هذا الرأي بما ذهب إليه القضاء منت جواز نفي الجريمة عن طريق إثبات أن الجاني قد وقع في غلط لا يمكن تجنبه ، فهذا الغلط يتجاوز إمكانية الإدراك لدى الإنسان البالغ الحذر ، مما ينفي عنه الخطأ.
وبتقديرنا فإننا نرجح الرأي الأخير لأنه يتماشى مع أصول قانون العقوبات الحديث ،وذلك باعتبار أن المسؤولية الشخصية عن الجرائم هي التي تحقق العدالة كمحور لسياسة التجريم،على أن الاعتبارات التنظيمية التي يأخذها المشرع بعين الاعتبار في بعض الحالات قد تدفعه إلى إلقاء التزامات أكثر شدة ودقة تتفق مع واجبات الشخص البالغ الحذر ، مما يقتضي فرض المزيد من الإنتباه على المواطنين،فلا مانع من أن يلجأ المشرع أو القضاء إلى إقامة قرينة لصالح الادعاء العام على توافر الخطأ بحق الجاني ، بشرط أن تضل هذه القرينة بسيطة ويجوز إثبات عكسها.
الجرائم المادية بين التأييد والإنكار
كما انقسم الفقه الجنائي بين مؤيد للجرائم المادية ومعارض لها ،وانقسم المؤيدون إلى فريقين فمنهم من اسند إلى اعتبارات تاريخية ، بقولهم إن الجرائم في الماضي كان يكفي لارتكابها نسبة الفعل إلى الفاعل دون اشتراط ارتكابه لخطأ ما سواء كان عمدياً أم غير عمدي ،فالركن المعنوي لم يكن له أهمية لقيام المسؤولية الجنائية ، فالمسؤولية كانت تقام حتى بحق فاقدي الأهلية لا بل وحتى بحق الحيوانات ، وبالتالي فإنه من باب أولى قيام هذه المسؤولية بحق الإنسان البالغ العاقل الذي نسب إليه الفعل مع افتراض الخطأ بحق.
لقد تعرض هذا الرأي لانتقادات قوية إذ أن الركن المعنوي أصبح له أهمية كبيرة في ضل السياسة الجنائية الحديثة ولا يمكن الاستناد لأسباب تاريخية محضه لقيام المسؤولية الجنائية .
أما الفريق الثاني من المؤيدين فقد استند إلى الاعتبارات العملية ،فقالوا أن صعوبة إثبات الركن المعنوي في بعض الجرائم وخاصة الجرائم ذات الطبيعة الاقتصادية تستلزم بالضرورة افتراض الخطأ بحق مرتكب الفعل ،إذ أن من شأن ذلك الافتراض تخفيف العبء عن كاهل المحاكم الجنائية ، لأن عبء الإثبات سيلقى على عاتق المتهم.
وقد أسهب هذا الفريق في تقديم الحجج والمبررات التي تدعم رأيه بقولهم إن هذا الافتراض سيسهم في تحقيق الردع العام والردع الخاص عندما سيعلم مرتكب الجريمة المادية والجمهور بأن أحد الأشخاص قد أُدين لمجرد ارتكابه الفعل المحظور ،وقالوا أن من شأن ذلك الارتقاء بمستوى العناية والحفاظ على الصالح العام، و تفادي الدفوع غير الجدية التي كثيراً ما يتفنن في اختلاقها المتهمون.
إلا أن هذا الفرق أيضاً لم يَنْجُ من سهام النقد، مما دفع فريق ثالث إلى تبرير المسؤولية الجنائية عن الجرائم المادية بالإستناد إلى الاعتبارات القانونية ، فقالو أن أساس تلك المسؤولية هي إرادة المشرع ، فالمشرع هو من يقرر التصرفات التي تعد جريمة ، وهو الذي يقرر الجرائم التي تستلزم الخطأ والجرائم التي يفترض فيها الخطأ وبالتالي فلابد من احترام إرادة المشرع .
وقد قدم هذا الفريق العديد من الحجج التي تدعم رأيه بالقول إن نسبة الجرائم المادية التي يفترض فيها المشرع الخطأ يعد ضئيل جداً بالنسبة الى مجل الجرائم.وإن هذا الافتراض تقتضيه الطبيعة الخاصة لجرائم المسئولية بدون خطأ، كما إن اعتبارات السياسة الجنائية الحديثة التي تحاول أن تواكب التطورات الاقتصادية والتي بدأت تنحو إلى معاقبة الرأس المدبر للجريمة وليس فقط من نفذ مادياتها تستوجب التسليم بضرورة الجرائم المادية في التشريعات الجنائية الحديثة.
لابل أن جانب من هذا الفريق قد ذهب إلى أبعد من ذلك فحاول تبرير تلك الجرائم بالاستناد إلى أن المسؤولية في القانون المدني تقوم دون الحاجة إلى نسبة الخطأ إلى مرتكب الفعل الذي أنشأ ضرراً ، وبالتالي فيمكن استعارة تلك الفكرة من القانون المدني ومدها إلى القانون الجنائي.
وبالرغم من تعدد الحجج التي أستند إليها المؤيدون لتبرير قيام المسؤولية الجنائية في بعض الجرائم بمجرد تحقق الركن المادي فيها ،إلا أن هنالك جانب آخر من الفقه قد عارض فكرة الجريمة المادية مهما كان الأساس الذي أستندت إليه ، وقد برروا مناهضتهم لما لتلك الجرائم من مثالب القانونية ، فهي تناهض المبادئ القانونية التقليدية التي تستلزم توفر الركنين المادي والمعنوي كحد أدنى لقيام الجريمة، وإنها تخالف قرينة البراءة التي ناضلت البشرية طويلاً حتى تم إقرارها ، وقالوا بأن تلك الجرائم تنافي مع أغراض العقاب الحديثة والمتمثلة في إصلاح الجاني وليس الردع ، فالإصلاح يكون للمخطأ ،فإذا لم يكن الشخص مخطئاً فلماذا يعاقب، فالقائم بالفعل لم يرتكب خطاً لكي يتم إصلاحه عن طريق العقوبة .
وهكذا فإن الإقرار بتلك الجرائم له مثالب اجتماعية وأخلاقية ، كونه يؤدي إلى سقوط هيبة القانون، فالقانون العقابي لكي يحترم يجب أن يشعر عامة الناس بأنه قانون يستند إلى قواعد أخلاقية ويحقق مباديء العدالة ،قانون يعاقب من يسيء ويخطأ .فإذا توسع المشرع في نطاق التجريم ليشمل من لم يخطأ ،فإن هيبته ستسقط لمناهضته للقواعد الأخلاقية ومجافاته العدالة .
وهكذا فقد أنتقد المناهضون تضمين التشريعات العقابية مثل هذه الجرائم ، وقالوا بإمكانية اللجوء إلى أساليب مدنية وإدارية،لمجازاة من يقوم بمثل تلك الأفعال لردع من يرتكبها ، من دون اللجوء إلى العقاب الجنائي الذي سيؤدي إلى وصم مرتكب الجريمة المادية بوصمة المجرم من دون أن يقترف أي خطأ.
ثانياً-مسؤولية الشريك عن النتائج المحتملة
الأصل أن المساهم لا يُسأل جزائياً إلا ‘ن الجريمة التي ساهم فيها سواء كان مساهماً أصلياً أم مساهماً تبعياً،فإذا أتفق المساهمون على سرقة سيارة فهم مسؤولون عن تلك الجريمة .ولكن قد تقع نتيجة لهذه المساهمة أصلية كانت أم تبعية نتيجة غير التي أرادها المساهمون وأنصب عليها اشتراكهم ولكنها نتيجة محتملة لذلك الاشتراك،ففي المثال أعلاه إذا أتفق المساهمون على سرقة سيارة مثلاً فقاومهم مالك السيارة ،فأطلق أحد المساهمين النار عليه وأرداه قتيلاً،من دون أن تتجه إرادة المساهمين الآخرين إلى قتل مالك السيارة ، ومن دون أن يتفقوا على ارتكاب تلك الجريمة مسبقاً.
من الواضح إنه وفقاً للمجرى العادي للأمور من المتوقع أن يقاوم مالك السيارة السُرَّاق عند محاولتهم سرقتها ، ومن المتوقع أيضاً أن يواجه السُرَّاق تلك المقاومة بالعنف ، وبالتالي فإن قتل مالك السيارة يُعد نتيجة محتملة لجريمة السرقة.واستناداً إلى المادة (53) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 فإنه : (( يعاقب المساهم في الجريمة فاعلاً أو شريكاً-بعقوبة الجريمة التي وقعت فعلاً ولو كانت غير التي قصد ارتكابها متى كانت الجريمة التي وقعت نتيجة محتملة للمساهمة التي حصلت)).
فالمشرع العراقي يقيم مسؤولية المساهم فاعلاً كان أم شريكاً عن النتيجة المحتملة للمساهمة ،ويعاقبه بعقوبة الجريمة التي وقعت لا بعقوبة الجريمة التي كان من المفترض ارتكابها .
لقد انتقد فريقٌ من الفقه -وهم أنصار تعدد الجرائم بتعدد المشتركين- معاقبة المساهم عن النتائج المحتملة لاشتراكه ، واعتبروه خروجاً عن مبدأ لامسؤولية جنائية بدون خطأ ،وقالوا بضرورة تحديد مسؤولية كل مساهم بالجريمة التي قصد الإشتراك فيها،أما النتائج المحتملة فيتحملها المساهم أو الذي قام بمادياتها .
في حين ذهب فريقٌ آخر نؤيده إلى أن معاقبة المساهم عن النتائج المحتملة لاشتراكه ، لايُعد خروجاً عن مبدأ لامسؤولية جنائية بدون خطأ،وقد استندوا في ذلك إلى أن المشرع يقيم قرينة قاطعة على تحقق الخطأ لدى المساهم، فبمجرد مساهمته في الجريمة الأصلية بعلمه وإرادته ، يتوافر لديه القصد الجنائي لارتكاب الجرائم المحتملة الوقوع نتيجة لتلك المساهمة ، لأن تلك الجرائم تكون متوقعة حسب المجرى العادي للأمور،فكان على ألمساهم أن يتوقعها، وهذا هو الخطأ المفترض بحقه والذي على أساسه تقوم فكرة مسؤولية الشريك عن النتائج المحتملة ، ومعاقبـته عنها.