مقدمة
أن مبدأ حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة هو أوسع المبادئ القانونية انتشاراً في قوانين و دساتير العالم المتحضر و هو أهم مبدأ من مبادئ نظام الإثبات الحر .
وقد أخذ به المشترع السوري عندما نص في المادة / 175 / ف1 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على ما يلي : (( تقام البينة في الجنايات و الجنح و المخالفات بجميع طرق الإثبات و يحكم القاضي حسب قناعته الشخصية )) و غاية المشترع من أعطاء القاضي الجزائي هذه الحرية الواسعة لتشكيل قناعته و تقدير الأدلة المطروحة أمامه هو تمكينه من معرفة الحقيقة وكشف غوامض كل واقعة جرمية لتأمين العدالة و ضمان حرية الأفراد و صون كرامتهم و المشترع لم يعتمد نظام الإثبات الحر و يعطي القاضي الجزائي هذه الحرية إلا بعد تجارب عديدة أثبتت جميعها أنه لا يمكن لأي تشريع مهما كان متطوراً و علميا أن يحدد بشكل مسبق أدلة إثبات قاطعة و جازمة لا يرقى الشك إليها
لذا أسند المشترع لوجدان القاضي الجزائي و ضميره و شرفه مسألة تقدير الأدلة و حرية الاقتناع بها كإنسان مسؤول أمام الله و المجتمع لتطبيق العدالة و اعتبره أفضل ضمانة لتطبيق القانون و بسط العدالة
أن مبدأ حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة هو من أهم المبادئ التي تعتمد عليها نظرية الإثبات في المواد الجنائية بالإضافة للمبدأين الآخرين وهما (( إطلاق الأدلة و الدور الايجابي للقاضي )) وقد تطور هذا المبدأ مع تطور نظريات الإثبات و مر بعدة مراحل تحدث عنها الفقهاء و قاموا بتصنيفها بخمس مراحل :
المرحلة البدائية :
حيث كان المرء هو نفسه القاضي الذي قلما يمارس نقداً للأدلة التي يملكها و يتصرف بحكم اندفاعاته و اعتقاداته الشخصية فإذا اعتقد بان شخصاً جار عليه و أساء له اقتص لنفسه بمعونة العشيرة و الأخوة ( )
المرحلة الدينية :
حيث كان الكهنة و رجال الدين يقومون بدور القاضي و كانوا يعتمدون على الآلهة لكشف الحقيقة و تشكيل قناعا تهم و ذلك باللجوء إلى أساليب كثيرة لإدخال قدرة الآلهة و منها قذف المتهم إلى نار مشتعلة فان كان المتهم بريئا حمته الآلهة
المرحلة القانونية :
وهذه المرحلة تعتبر رد فعل على تعسف و ظلم الإنسان في المرحلة الدينية حيث حدد الدليل بشكل مسبق فإذا توفر الدليل يثبت الجرم وكان الاعتراف سيد الأدلة وكان يعول كثيراً على الشهادة و كثرة عدد الشهود
مرحلة نظام الإثبات الحر :
وهي المرحلة الوجدانية وفيها يملك القاضي حق تقدير الدليل و تكوين قناعته الوجدانية من خلال الأدلة المطروحة أمامه دون أن يكون لأي دليل قوة ثبوتية متميزة و يحكم القاضي حسب قناعته الوجدانية بما يريح ضميره
وهذا الأسلوب الذي أخذت به معظم الدول المتمدنة
وكانت هذه المرحلة ردا على النتائج الشاذة و الظالمة التي نتجت عن تطبيق المرحلة المقيدة .
المرحلة العلمية :
هذه المرحلة برزت نتيجة تطور العلوم و تشعبها بكافة مجالات الحياة و خصوصاً في المسائل المهمة التي يستطيع القاضي عن طريقها تشكيل قناعته على أسس علمية سليمة فتحليل الدم و البصمات من وسائل البحث الجنائي التي تؤثر على حرية القاضي الجزائي في الاقتناع ، ألا أن هذه المرحلة لم تشل مرحلة نظام الإثبات الحر بل دعمته وأصبح هناك توافق و تساند حيث أن القاضي الجزائي أصبح يعتمد على الوسائل العلمية لكشف الحقيقة ولم بنظر لها على أساس أنها تقيد حريته في الاقتناع ( )
وجدير بالذكر في نهاية هذه المقدمة بأن حرية القاضي في الإسلام كانت مطلقة بالنسبة لتشكيل قناعته الوجدانية فالقاضي في الإسلام هو الفقيه في أمور الدين و الدنيا وهو موضع ثقة المسلمين لا يقيده إلا نصوص القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة .
الباب الاول
حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة
بعد أن نعرف حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة نستعرض على التوالي مضمون هذه الحرية ثم الأسباب التي تبرر الأخذ بهذه الحرية ثم النقد الذي وجه لها
الفصل الاول:تعريف حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة :
وهي الحالة النفسية والذهنية التي يصل إليها القاضي الجزائي بعد أن تطرح عليه كافة الأدلة في الدعوى و يزنها و يقدر قيمة كل منها و يسعى لكشف الحقيقة مما يولد لديه القناعة القاطعة التي لا يشوبها أي شك بإدانة المتهم أو براءته دون أن يمارس عليه أي نوع من الضغوط المباشرة أو غير المباشرة
و قد عرقت محكمة النقض السورية القناعة الوجدانية لمحكمة الموضوع فقالت: (( القناعة الوجدانية هي حالة نفسية تتحصل لدى المحكمة من أدلة دون أخرى فهي من أطلاقاتها طالما كان لما استنبطت منه هذه القناعة أساس))
أولاً : مضمون هذه الحرية :
تنص المادة 175 ف1 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه : (( تقام البينة في الجنايات والجنح و المخالفات بجميع طرق الإثبات و يحكم القاضي حسب قناعته الشخصية ))
فمضمون حرية القاضي الجزائي هو أنه حر في أن يستمد قناعته من أي دليل مطروح في الدعوى وأنه غير ملتزم بإصدار حكمه بالإدانة أو البراءة لتوفر دليل معين طالما انه لم يقتنع بذلك
فجميع الأدلة في الدعوى خاضعة لتمحيصه و تقديره وله الحرية في استخلاص قناعته من أي دليل مطروح في الدعوى و الأدلة مهما تضافرت لا تلزمه بالسير في حكمه باتجاه معين إذا لم يكن مقتنعاً بهذا الاتجاه ، فشهادة الشهود و اعتراف المتهم و نتائج الخبرة و الأدلة الكتابية لا تلزمه بالإدانة (( و بالعكس لأنها جميعها تخضع لتقديره وحسن استدلاله ))
و للقاضي الجزائي تجزئة الدليل فبأخذ جزءاً منه و يهمل الجزء الذي لا يطمئن إليه و لا رقابة عليه في ذلك إلا رقابة الوجدان و الضمير
و للقاضي الجزائي أن يناقش الأدلة الواردة في محاضر البحث الأولى ، أو التحقيق الابتدائي أو المحاكمة و الأخذ بها أو طرحها وله أن بأخذ بالدليل الوارد في محضر التحقيق الابتدائي دون ذلك الوارد في ضبط جلسات المحاكمة أو بالعكس ما دام قد اطمأن لإحداهما ، لأن القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي يمكن أن تتولد عن شذرات متفرقة من الظروف أو الحوادث تشكل مجموعها سلسلة من القرائن
وقد أوضحت محكمة النقض مضمون هذه الحرية الواسعة فقالت : (( أن القانون أمد القاضي في المسائل الجزائية بسلطة واسعة و حرية كاملة في سبيل تقصي ثبوت الجرائم أو عدم ثبوتها و الوقوف على حقيقة علاقة المتهمين بها ففتح له باب الإثبات على مصراعيه ، يختار من كل طرقه ما يراه موصلاً إلى الكشف عن الحقيقة ، و يزن قوة الإثبات المستمدة من كل عنصر بمحض وجدانه فيأخذ بما تطمئن أليه عقديته و يطرح ما لا ترتاح أليه ولا رقيب عليه في ذلك إلا ضميره وحده ))
وهذه الحرية تبدأ من بدء إجراءات المحاكمة حتى انتهائها حيث تتوالد القناعة الوجدانية بين هذين الحدين ومن مصدرين هما أدلة الدعوى وما تحدثه في ضمير القاضي و وجدانه من انطباعات و تصورات عن الجريمة و المجرم و العلاقة بينهما و خبرة القاضي المسبقة و قدراته الذهنية والعقلية على تقدير كل دليل في الدعوى و خصوصية هذا الدليل بالنسبة لهذه الدعوى و أطرافها ، والقدرة على استخلاص النتائج السليمة و المنسجمة مع مبادئ المنطق و العقل السليم ومن تفاعل هذين المصدرين لدى القاضي الجزائي ينتج ما يسمى القناعة الوجدانية أو حرية الاقتناع و تقدير الأدلة
ثانياً : الأسباب التي تبرر الأخذ بمبدأ حرية القاضي :
أن أغلب الدساتير و القوانين المتمدنة تبنت مبدأ حرية القاضي الجزائي في القناعة و تقدير الأدلة -رغم انتقادات سنذكرها في فقرة لاحقة- و ذلك للأسباب التالية :
أ - إذا حددنا الأدلة المطلوبة لإثبات كل جريمة بشكل مسبق نكون قد ألحقنا ضررا بقرينة البراءة ( المتهم برئ حتى تثبت إدانته ) لأنه متى توافرت الأدلة يتوجب على القاضي أن يدين المتهم ولو كان القاضي غير مقتنع بإدانته من خلال اتصاله بالدعوى حيث يقف القاضي مكتوف الأيدي لا يستطيع إعلان براءة المتهم على الرغم من اقتناعه بها
ب – بالنسبة للإثبات فان مصلحة كافة أطراف الدعوى و القاضي الجزائي أن يكون الإثبات حراً ، لأن المجرم يحاول أن يخفي علائم الجريمة التي ارتكبها وصلته بها وهذا بدوره يتطلب أن يكون الإثبات حرا و اقتناع القاضي حرا ليستطيع القاضي أن يغلق الأبواب التي يفتحها المجرم للآفلات من العقاب
جـ - الأمور الجنائية من الصعب حصرها في أطار محدد بصورة مسبقة لأنها غير قابلة للتوقع مع تطور الحياة الاجتماعية إذ أن هذه الأمور تنصب على وقائع مادية و نفسية يكون من الصعب إثباتها ما لم تترك لحرية القاضي تقدير كافة الظروف والأدلة المطروحة أمامه وعدم إلزامه بدليل معين بشكل مسبق فقاضي الموضوع هو الذي يستطيع الغوص في نفسية المتهم و الوقوف على نيته الجرمية وعلى حالته النفسية و تقدير المناسب من الإجراءات
ثالثاً : النقد الذي وجه لحرية القاضي الجزائي :
لقد وجهت لحرية القاضي الجزائي انتقادات عديدة ومن أهم هذه الانتقادات :
أ – أن قرينة البراءة نفسها التي تعتبر من أهم ضمانات الحرية الفردية التي نص عليها الدستور تصبح عرضة للانتهاك بسهولة من قبل القاضي الجزائي الذي يتسلح بحرية الاقتناع و تقدير الأدلة و تعطل القاعدة التي تقول بان الشك يفسر لمصلحة المتهم لان القاضي هو الذي يقدر الشك أو اليقين أي هو الذي يحدد قيمة الأدلة التي توصله إلى حد اليقين
ب – إن الأخذ بالمبدأ على إطلاقه يؤدي إلى صعوبة في إثبات الجرائم بالنسبة للنيابة العامة التي تتولى مسألة الادعاء عن جهة الحق العام ، حيث لا تعرف النيابة العامة مدى قوة الأدلة التي تقدمها لإثبات دعواها فهل هذه الأدلة تقنع القاضي أم لا
كما أن هذه الحرية تجعل جهة الدفاع تجهل ما تلقاه كافة البينات التي تقدمها من ثقة وقوة لإثبات البراءة ومدى تأثير دفوعها على مجرى الدعوى ، وهكذا يبقى مصير المتهم معلقاً في دنيا المجهول و يصبح نظام الإثبات وقوة البينات تختلف من محكمة لأخرى ومن دعوى إلى أخرى .
جـ - رغم أن القضاة نخبة من رجال الأمة أشربت نفوسهم بحب القانون وحب توزيع العدل بين الناس كما أنهم من ذوي النفوس الراقية السامية و الضمائر الشريفة اليقظة ألا أن القاضي بشر لا يخلو تكوينه البشري من ميل أو محاباة ضعف وآخرين ضعفاء أمام السلطة وذوي النفوذ
أن تلك الأمور يمكن أن تجعل القاضي الجزائي يستغل هذه الحرية الواسعة و السلطة التي بين يديه لإصدار أحكام ليست في مصلحة العدالة وتكون تنفيذاً لرغبات معينة أو إرضاء لجهات معينة و استنادا لذلك فقد يبرأ مجرم ويدان برئ .
ء – المؤثرات الداخلية والخارجية على إدراك القاضي وتأثير ذلك على حرية القاضي ومنها عامل الذاكرة وعامل التوقع والتخمين وكذلك الحالة النفسية والجسمية التي يكون عليها القاضي عندما يدرس الدعوى ويصدر حكمه ولا يسعنا هنا إلا أن نسأل سؤالا هل قرار القاضي الجزائي عندما يكون سعيدا هو نفسه عندما يكون منزعجا بنفس الدعوى ؟
وكذلك اعتقادات القاضي المسبقة وثقافته تؤثر فيما يدركه القاضي من أدلة تشكل العالم الخارجي الذي يتصل إدراك القاضي الجزائي به وتأويل القاضي للعالم الخارجي الذي يتصل به من شأنه أن يؤثر سلباً أو إيجابا على اقتناع القاضي الجزائي
الفصل الثاني
ضوابط حرية القاضي الجزائي في الاقتناع وتقدير الأدلة
أن حرية القاضي الجزائي في الاقتناع وتقدير الأدلة ليست حرية تحكمية و عشوائية و غير منضبطة بل حرية لها ضوابط محددة يجب مراعاتها و إتباعها من أجل الوصول إلى أحكام صحيحة تصون الحق و تحافظ على حسن سير العدالة ومن هذه الضوابط :
أولاً : يجب أن يكون الاقتناع بناءً على وجود دليل :
أن القاضي الجزائي عندما يكون قناعته لا يكونها من فراغ إنما بناءً على أدلة موجودة بالدعوى و المشترع لم يحدد أدلة معينة في الإثبات الجزائي أنما فرض على القاضي الجزائي أن يبني قناعته استناداً إلى دليل موجود وهذا الدليل يجب أن يكون كاملاً و قد أدى الاستناد عليه إلى هذه النتيجة التي استخلصها القاضي وقد أكدت محكمة النقض على هذا الضابط :
(( على محكمة الموضوع أن تبين من أين استمدت قناعتها ))
وذلك ليتسنى لمحكمة النقض مراقبة حسن التقدير و استدلال القاضي لان هناك بعض الوقائع او المواقف لا ترقى إلى مرتبة الدليل و بالتالي لا يصح الركون إليها وحدها في تشكيل القناعة للمحكمة . ومن هذا القبيل أن سكوت المدعى عليه لا يعد أقراراً منه على ما نسب أليه لأنه لا ينسب إلى ساكت قول ، كما لا يجوز للمحكمة أن تتخذ من غياب المدعى عليه أثناء المحاكمة قرينة كافية للحكم عليه دون وجود دليل .
كما أن العطف من متهم على أخر ليس بدليل كاف على نسبة الجرم إلى المتهم الآخر أنما يبقى قولا يحتاج إلى دليل أو أدلة تسانده وبالتالي لا يجوز الاعتماد عليه في الإدانة
وبذلك فان الأدلة تنقسم إلى أدلة على جريمة و أدلة على مقترفيها
ومن اجل إدانة شخص بجريمة معينة و نسبتها له ، لا بد من وجود دليل على وقوع الجريمة و لا بد من وجود دليل آخر يؤكد بشكل لا يدع مجالاً للشك اقتراف هذه الجريمة من قبل المتهم
ثانياً : بجب أن يكون الدليل الذي استخدمه القاضي في قناعته قضائياً :
تنص المادة / 176 / من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه (( لا يجوز للقاضي إن يعتمد إلا البينات التي قدمت أثناء المحاكمة و تناقش فيها الخصوم بصورة علنية ))
أي لا بد أن يكون الدليل الذي استند إليه القاضي لتكوين قناعته له أصل في أوراق الدعوى وطرح في الجلسات للمناقشة العلنية وخضع لحرية المناقشة من قبل أطراف الدعوى بعد تلاوته أمام الجميع من قبل المحكمة وفائدة ذلك حتى يعرف أطراف الدعوى الأدلة التي ضدهم و الأدلة التي من مصلحتهم
ولكي يكون القاضي قناعته استناداً إلى تحقيق أجراه بنفسه من جهة أخرى و الاجتهاد مستقر على أنه لا يجوز للمحكمة أن تعتمد إلا البينات التي طرحت أمامها وتناقش فيها الخصوم
ويجب أن يكون هذا الدليل مدونا في ضبط الجلسات وأوراق الدعوى لا مكان القول بأن القاضي قد رجع إليها وقام بدراستها قبل إصدار حكمه
فالشهادة التي لا تدون في ضبوط الجلسات لا يجوز الاعتماد عليها في الحكم وأن كانت قد سمعت في الجلسة وبحضور الخصوم وتناقش الخصوم بها واعتماد القاضي في تكوين قناعته على دليل لم يطرح في جلسات المحاكمة للمناقشة يعتبر إخلالا بحقوق الإطراف , لان بإمكانهم أن يقدموا ما يدحض هذا الدليل
كما أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بناء على معلومات جاءته من خارج مجلس القضاء أي بناء على معلومات شخصية شاهدها هو بنفسه أو سمع بها من خلال مجالسه الخاصة لأن هذا يؤدي الى أن يصبح القاضي شاهداً وحكما في آن واحد وهذا يخالف وجوب طرح الدليل للمناقشة العلنية ويفوت ضمانة حياد القاضي الجزائي
ولا تعتبر من قبيل المعلومات الشخصية : المعلومات العامة التي تستقى من المعارف والعلوم المختلفة .
ثالثاً : الاقتناع بناء على أدلة مشروعة وصحيحة :
على القاضي أن يكون قناعته الوجدانية من خلال أدلة مشروعة وصحيحة ويطرح الأدلة التي جاءته عن طريق إجراءات غير مشروعة أو غير قانونية جانباً لأن ما بني على باطل فهو باطل وغاية المشترع من ذلك تأمين حق الدفاع المقدس للأفراد وبالتالي يكون الدليل المستحصل عليه بالضغط والإكراه والخديعة والاحتيال دليلا معيبا يتوجب على القاضي استبعاده من بين الأدلة المطروحة عليه وذلك استنادا للدستور السوري بالذات في باب الحريات والحقوق والواجبات العامة/مادة 28/
ـ1 كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم,ـ2 لا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقا للقانون,ـ3 لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك,وقد أوردت محكمة النقض اجتهادات عديدة في هذا المجال منها:
((لا يؤخذ بالاعتراف الأولي الحاصل بالضرب ما لم يكن مؤيدا بأدلة أخرى ))
إلا أن محكمة النقض خالفت ما سبق. حيث تقول في إحد اجتهاداتها (( إن مخالفة رجال الشرطة للقانون لا يؤدي إلى إنكار ما نشأ عنه من الأمر الواقع والمشاهدة المحسوسة ))
وهذا الاجتهاد مستنكر لأنه يهدر ضمانات دستورية لحقوق المواطنين في الدفاع عن أنفسهم و حماية حرياتهم و يتناقض مع روح التشريع و القواعد العامة للقانون و الدستور
رابعاً : الاقتناع بناءً على الإلمام لجميع الأدلة :
يجب على القاضي لتكون قناعته صحيحة وقبل أن يصدر حكمه أن يطلع على جميع الأدلة الموجودة من الدعوى وان يمحص كل تلك الأدلة أدلة إثبات كانت أو أدلة نفي
ففي اجتهاد لمحكمة النقض يؤكد هذا الاتجاه تقول : (( على المحكمة أن تعطي لأدلة الثبوت من قرائن و أقوال نفس الاهتمام لأدلة النفي ، كما هو متوجب عليها أن تتوسع بالتحقيق إذا لزم الأمر ))
كما لا يجوز للقاضي الاستعجال و الحكم بالدعوى قبل استكمال التحقيق و جمع الأدلة و مناقشتها وليس له الاستغناء عن كل تحقيق منتج في الدعوى و يؤثر في سير القضية إلا بعد مناقشته و الرد عليه فإذا اقتصر القاضي على بعض الأدلة و فصل في الدعوى قبل أن يطلع على أدلة الآخرين فان حكمه يكون سابقاً لأوانه و جديرا بالنقض
وفي اجتهاد لمحكمة النقض يؤكد هذا الاتجاه تقول فيه : (( إن عدم إحاطة المحكمة بواقعات الدعوى و عدم مناقشة أقوال المتهم و الشهود و عدم أيراد الدفوع المثارة و الرد عليها يجعل الحكم سابقاً لأوانه ))
أن إغفال محكمة الموضوع لبعض واقعات الدعوى يعرض حكمها للنقض
لذلك يجب على القاضي الجزائي الإلمام بكل الأدلة المطروحة بالدعوى لان الأدلة يجب أن تكون متساندة لكشف الحقيقة فلربما كان لأحد الأدلة التي لم يطلع عليها القاضي أثر كبير للوقوف على الحقيقة .
خامسا : يجب أن يكون الاقتناع يقيني :
على قاعدة( الشك يفسر لمصلحة المتهم )
أن الأحكام يجب أن تبنى على الاقتناع اليقيني القاطع و الجازم بارتكاب المتهم للجرم فالقاضي الجزائي يجب أن لا يحكم إلا بعد أن تكون قد تمثلت في ذهنه كافة احتمالات الواقعة الجرمية ، وكانت كافة هذه الاحتمالات تؤدي إلى أدانه المتهم فلو وجد احتمال بسيط لمصلحة المتهم يبرئ ساحته فان هذا الاحتمال يعتبر شكاً و الشك يفسر لمصلحة المتهم، إذا يجب أن تبنى الأحكام على الجزم و اليقين و ليس الظن و الاحتمال وفي اجتهاد جديد لمحكمة النقض يؤكد هذا القول جاء فيه (( اليقين المطلق في ارتكاب متهم لأي جرم جنائي مطلوب و يجب البحث عنه ، و عدم الحكم إلا بعد أن تطمئن المحكمة بوجدانها إلى أن الفاعل قد ارتكب الفعل وان إدانته صحيحة
و الجدير بالذكر انه إذا تعدد المتهمون في الدعوى وكانت الجريمة لم ترتكب إلا من أحدهم ولكن المحكمة لم تستطع تبيانه على وجه اليقين وجب عليها الحكم عليهم جميعا بعقوبة الجريمة المقترفة بعد تخفيض العقوبة حتى نصفها عملا بنص المادة 546 من قانون العقوبات والتي قالت(( إذا وقع قتل شخص أو إيذاؤه أثناء مشاجرة اشترك فيها جماعة ولم تمكن معرفة الفاعل بالذات عوقب جميع من حاولوا الإيقاع بالمجني عليه بعقوبة الجريمة المقترفة بعد تخفيض العقوبة حتى نصفها)) وقد حدد محكمة النقض شروط الأخذ بمبدأ جهالة الفاعل بالاجتهاد الذي قال)):لا يصار إلى الأخذ بجهالة الفاعل إلا في حالة اشتراك الأشخاص في الأعمال التي من شانها أن تؤدي إلى وقوع الجرم)) ولا يمكن الأخذ بهذه القاعدة إلا في حالة الإيذاء أو القتل أثناء مشاجرة أما إذا كان الجرم غير ذلك وجب على المحكمة الحكم ببراءتهم جميعاً لعدم كفاية الأدلة عملاً بيقين الاقتناع
وفي هذا الضابط يجب التفرقة بين مرحلتين ، مرحلة التحقيق و مرحلة المحاكمة ففي مرحلة التحقيق لا يشترط أن تصل قناعة القاضي إلى حد اليقين الكامل بإدانة المدعى عليه بل يكفي مجرد ترجيح الإدانة على البراءة .
أما في مرحلة المحاكمة و الحكم فإن الحكم بالإدانة يجب إن يبنى على اليقين الكامل لاستبعاد قرينة البراءة
وقد استقر الاجتهاد على ذلك : (( قاضي الإحالة لا يتحرى عن اليقين المطلق وإنما عن كفاية الأدلة للاتهام ))
سادساً : تعليل و تسبيب الأحكام :
أن من ضوابط حرية القاضي الجزائي في الاقتناع بأي دليل ، أن يسبب حكمه أي يذكر الأسباب و العلل التي قادته و جعلته يحكم بالإدانة أو البراءة ، و إلا كان القرار عرضة للنقض
وقد نصت المادة / 203 / من قانون أصول المحاكمات الجزائية على وجوب تسبيب الأحكام فقالت : (( يجب أن يشتمل الحكم النهائي على العلل و الأسباب الموجبة له وان تذكر فيه المادة القانونية المطبق عليها الفعل وهل هو قابل الاستئناف أم لا ))
كما نصت المادة 310 من القانون ذاته على ذلك فأوجبت هاتان المادتان أن يشتمل الحكم على العلل و الأسباب الموجبة له ، و لا يكفي أن يعدد الحكم في حيثياته الأدلة في الدعوى بل يجب أن يبين خلاصة عن كل دليل طرح في الدعوى و مناقشة كافية لمعرفة الأدلة التي اخذ بها الحكم عرضة للنقض
و يؤكد هذا الضابط اجتهادا لمحكمة النقض تقول فيه (( أن القضاء الجزائي يقوم على أساس حرية القاضي قي تقدير الوقائع و الأدلة و الموازنة بينهما و مقابلتها مع بعضها لكن ذلك لا يعفيه من ذكر خلاصات كافية من كل دليل ومن تمحيص تلك الأدلة و مناقشتها و تعليل اقتناعه بما اطمأن إليه و طرحه ما لم يقتنع به ))
وفي اجتهاد آخر يؤكد أن المحكمة وان كانت تستقل في تقدير الأدلة الأخذ بما تقتنع به فيها و طرح الأدلة الأخرى غير أنها ملزمة بالإفصاح عن ذلك و الرد على جميع الدفوع التي يثيرها الخصوم
سابعاً : الاقتناع الذي يأتلف مع المنطق والعقل السليم :
يجب أن يكون ما يعتمده القاضي من أدلة يؤدي بشكل طبيعي إلى النتيجة التي وصل إليها فاستقلال القاضي في تقدير الأدلة مقيد بسلامة التقدير و الاستدلال فإذا كانا غير سليمين أو كانا قائمين على أسس ضعيفة و ركائز واهية فان الحكم الصادر يكون خاضعا لرقابة محكمة النقض و عرضة للنقض و ذلك من اجل صيانة الحق و حسن تطبيق القانون
وقالت محكمة النقض في اجتهاد لها تؤكد هذا الضابط :
(( أن تقدير الأدلة يعود إلى قضاة الموضوع ولهم مطلق الحرية بهذا التقدير إلا أن هذه الحرية مقيدة بسلامة الاستدلال و التقدير المتفق مع المنطق و وقائع الدعوى وأدلتها ، وعلى هذا فان الأدلة التي يساند بعضها البعض و التي يمكن التوفيق فيها هي المعول في تكوين القناعة ))
وفي اجتهاد آخر
(( لئن كان تقدير الأدلة و الوقائع من صلاحية القاضي إلا أن هذا يجب أن يقترن بسلامة الاستدلال ))
وبعد أن استعرضنا ضوابط حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة فأن الضابط الأهم و الأبرز في هذا المجال كما هو في كل مجال و هو الضابط الأخلاقي حيث انه أثبتت التجارب في بلدنا وفي كل بلدان العالم انه لا يمكن تقيد القاضي مهما وضعنا من قيود و ضوابط إلا بقيد ضابط الشرف والضمير و الذي هو الضابط الأهم لكي تسير العدالة في طريقها الصحيح
الفصل الثالث
الاستثناءات التي تقيد حرية القاضي الجزائي في الاقتناع
لقد خرج المشترع عن مبدأ حرية الإثبات وعدم تقيد القاضي أو الخصوم بأدلة معينة في بعض الأحوال وأخذ بنظام الإثبات المقيد استثناءاً من المبدأ العام فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 175 من قانون أصول المحاكمات الجزائية
(( إذا نص القانون على طريقة معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة ))
ومن هذه الاستثناءات
أولاً : إثبات المسائل غير الجزائية :
أن إثبات المسائل غير الجزائية التي يتعلق الجرم بها يجب أن يكون بإتباع قواعد الإثبات الخاصة بها و يستبعد الإثبات الحر وقد نصت المادة 177 قانون أصول المحاكمات المدنية
(( إذا كان وجود الجريمة مرتبطاً بوجود حق شخصي وجب على القاضي أتباع قواعد الإثبات الخاصة به ))
وهذا يعني انه يتطلب من القاضي عندما تثار أمامه مسألة غير جزائية . مدنية أو تجارية أو أحوال شخصية بصورة تابعة للدعوى الجزائية و كانت هذه المسألة تحتاج إلى إثبات أن يتبع طرق الإثبات الخاصة التي تطبق على هذه المسائل فيما لو كان النزاع غير منظور أمام المحكمة الجزائية و ذلك لأسباب منها :
- توحيد طرق الإثبات للحق المدعى به ، وان اختلفت الجهات القضائية التي تنظر فيه
و ذلك لان طرق الإثبات ترتبط بطبيعة الوقائع التي ينصب عليها وليس بنوع القضاء الذي ينظرها
و تبعاً لذلك منع ما قد يحصل من تهرب من الالتزام بطرق الإثبات المدنية إلى طرق الإثبات الجزائية الحرة
وقد فسر الاجتهاد ذلك في اجتهادات عديدة منها (طريقة الإثبات تتبع جوهر الخلاف )) ومثال ذلك جريمة إساءة الأمانة حيث يتوجب إثبات عقد الأمانة بالوسائل المدنية أما الجريمة نفسها و التصرف بالأمانة فيمكن إثباتها بكل أنواع الإثبات
ثانياً : استبعاد بعض وسائل الإثبات بقوة القانون :
لقد استبعد المشترع عن دائرة اقتناع القاضي الجزائي بعض الأدلة وحرم عليه الاستناد إليها و تشكيل قناعته بناءً عليها فقد نصت المادة 181 ق أم . ج
على انه (( لا يجوز إثبات واقعة أو جريمة بالرسائل المتبادلة بين المدعي عليه و محاميه ))
وذلك بسبب ما يؤدي إليه من إخلال بموقف الدفاع
وكذلك اليمين الحاسمة حيث لا يجوز توجيهها إلى المدعى عليه في الدعوى الجزائية لإثبات جرائم معينة
ثالثاً : بعض الجرائم التي ينظم بها محاضر و ضوابط :
نصت المادة 178 ق أ م ج على ما يلي :
(( 1- يعمل بالضبط الذي ينظمه ضابط العدلية و مساعده و النائب العام في الجنح و المخالفات المكلفون باستثبائها حتى يثبت العكس
2- يشترط في إثبات العكس أن تكون البينة كتابية أو بواسطة الشهود ))
وبهذه المادة فقد صادر المشترع حرية القاضي الجزائي و الزمه بالحكم بموجب الضبوط المذكورة حتى يثبت عكسها وهذه الضوابط على نوعين :
أ – ضبوط يعمل بها حتى يثبت عكسها بالكتابة و البينة الشخصية :
مثل المحاضر و الضبوط التي تنظم في الجنح والمخالفات الواقعة على الأنظمة البلدية و الصحية و أنظمة السير و المخالفات التموينية
وحجية هذه المحاضر و الضبوط تقتصر على الوقائع المادية التي رآها الموظف أو سمعها أو وقعت تحت حواسه فقط أي أنها تقتصر على تبيان الوقائع دون تقديرها
ب- ضبوط يعمل بها حتى ثبوت تزويرها
مثل المحاضر التي ينظمها موظفو الحراج و الجمارك , ومحاضر جلسات التحقيق و المحاكم و نصوص الأحكام الصادرة عن القضاء وتعتبر هذه الضبوط من أقوى الضوابط التي تقيد حرية القاضي الجزائي وتهمش دوره في الدعوى وقد نصت المادة /182/ ق. أ. م. ج:
"لا يسوغ تحت طائلة البطلان إقامة البينة الشخصية على ما يخالف أو يجاوز مضمون المحاضر التي يوجب القانون اعتبارها و العمل بها حتى ثبوت تزويرها "
رابعاً : إثبات الزنا على شريك الزانية :
بالنسبة للرجل الشريك في الزنا حدد المشترع أدلة معينة يمكن بواسطتها إثبات الجرم وذلك في المادة / 473 / من قانون العقوبات وهذه الأدلة هي :
1- الإقرار القضائي من قبل المتهم في مجلس القضاء انه ارتكب الزنا
2- الرسائل المتبادلة الصادرة عن المتهم التي تشير أو تتضمن ارتكابه جرم الزنا
3- الجرم المشهود
خامساً : إثبات جريمة الإغواء :
نصت المادة / 4 – 5 / من قانون العقوبات على الأدلة التي تثبت جريمة الإغواء و هي :
1- ...................
2- (( في ما خلا الإقرار لا يقبل عن أدلة الثبوت على الجرم إلا ما نشأ منها من الرسائل و الوثائق الأخرى التي كتبها))
الفصل الرابع
رقابة محكمة النقض
بعد كل ما ذكرناه سابقاً فقد أصبح جلياً أن القاضي عندما يستبعد دليلاً معيناً لسبب ما أو عندما يرجح دليلاً على أخر فإنما مرجع ذلك لإحساسه و شعوره بعدم فاعلية هذا الدليل و قوة الآخر لذلك لا يجوز معارضته في اعتقاده ، ولا مجادلته فيما ذهب إليه أمام محكمة النقض لان ذلك من الجدل الموضوعي الذي تستقل به محاكم الأساس و لا يثار أمام غيرها
لذلك متى كانت الأدلة التي اعتمدها القاضي في تقرير البراءة أو الإدانة مؤدية منطقياً إلى هذا القرار فلا تصح مناقشتها أو الاعتراض عليها أمام محكمة النقض لكن محكمة النقض تتدخل لفرض رقابتها عندما يخالف القاضي الجزائي أحد الضوابط التي ذكرناها في الفصل الثاني و من أهمها تسبيب الأحكام و الائتلاف مع المنطق و العقل السليم أو بالأحرى سلامة التقدير و الاستدلال
الباب الثاني
الأدلة التي يستمد القاضي الجزائي قناعته منها عملياً
الفصل الأول
الأدلة المباشرة
أولاً : الاعتراف :
وهو الإقرار الصريح الذي لا لبس فيه ولا غموض أمام مجلس القضاء بارتكابه الجريمة كلاً أو بعضاً من قبل المتهم الذي يتمتع بإرادة حرة و واعية
أن الاعتراف هو دليل يخضع لتقدير القاضي الجزائي و قناعته به فإذا اقتنع به أخذ بمضمونه و حكم بالاستناد إليه أما إذا لم يقتنع به فيستبعده شأنه شأن أي دليل يقدم للقاضي .
وعندما يريد القاضي أن يأخذ بالاعتراف و يستند إليه فيتوجب عليه أن يبحث في أسباب الاعتراف و دوافعه و يبحث عن السبب الحقيقي للاعتراف و ما يخفي المعترف وراء اعترافه
لذا يتوجب على القاضي أن يتأكد من أن الاعتراف ينسجم مع بقية الأدلة وأن يتأكد أيضاً أنه صحيح و صادق و مطابق للحقيقة
كما يستطيع القاضي بموجب حريته في تكوين قناعته أن يجزئ الاعتراف في الدعوى الجزائية فهو يستطيع أن يأخذ بجزء من الاعتراف اطمأن إليه و اقتنع به كما يمكن أن يستبعد جزءا منه لم يطمئن إليه و يقتنع به و يتوجب عليه تبيان أسباب التجزئة
وبالنسبة لعدول المتهم عن اعترافه فانه للقاضي أن يأخذ بالاعتراف رغم العدول عنه إذا كان القاضي مقتنعاً بالاعتراف وقامت أدلة أخرى تؤيد الاعتراف الذي تم العدول عنه
فإذا لم يأخذ القاضي بالعدول فعليه أن يبين في حكمه السبب الذي دفعه للأخذ بالاعتراف و استبعاد العدول
من ذلك نرى أن أثر الاعتراف أمام القاضي الجزائي على قناعته يبقى مثله مثل باقي الأدلة الموجودة في الدعوى و يبقى خاضعاً لتقديره
ثانياً : الشهادة :
تعريفها : هي رواية شخص أمام مجلس القضاء عما اتصل بحواسه من وقائع و أحداث حول الجرم موضوع الشهادة دون أن يضيف أي رأي خاص أو تخمين حول الوقائع الإجرامية التي يدلي بشهادته حولها ، وقد نصت المواد / 77-192-281 / من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أن ينطق الشاهد بواقع الحال بدون زيادة أو نقصان
أما أثرها فان تقدير الشهادة و وزنها هي مسالة موضوعية لا رقابة فيها لمحكمة النقض إلا إذا كان تقدير القاضي للشهادة لا يأتلف مع المنطق السليم و لا يسلم فيه العقل
فإذا كانت واضحة لا تحتمل تأويلا فيجب أن لا يحرف القاضي هذه الشهادة عن مضمونها الحقيقي مع أن للمحكمة أن تجزئ الشهادة فتأخذ من شهادة الشاهد واقعة دون أخرى ، طالما أن وجدان المحكمة قد اطمأن إلى صحة هذه الواقعة دون بقية الشهادة
ولا اثر لعدول الشاهد عن شهادته فللقاضي الأخذ بها إذا اطمأن لصحتها إلا أن العدول يثير الشك من الناحية العملية مما يؤدي إلى تضاؤل أهميتها و للقاضي أيضاً بناءً على مبدأ حرية الاقتناع أن يفضل شهادة الشهود الذين سمعهم على سبيل الاستدلال و المعلومات على شهادة الشهود الذين حلفوا اليمين
بشرط أن تساند هذه الشهادة أدلة تدعمها وان يكون تقدير المحكمة للشهادة المسموعة على سبيل الاستدلال يأتلف مع العقل و المنطق السليم
الفصل الثاني
الأدلة غير المباشرة
أولاً : الخبرة :
وهي وسيلة عملية وفنية لتوضيح الأدلة و تمكين القاضي من تقديرها ، يقوم بها أهل الفن و الصنعة و الاختصاص ممن يختارهم القضاء لذلك ، و يعتبر التقدير الفني للخبير دليلاً توضيحياً للإثبات يخضع لتقدير القاضي مثله مثل بقية الأدلة و تبقى الخبرة مسألة استشارية غير ملزمة للقاضي الجزائي فهو يستطيع أن يلجأ إلى دليل آخر بشرط أن يبين الأسباب التي دعته إلى ذلك
كما يمكن للمحكمة أن تجزيء الخبرة فتأخذ منها ما يناسب قناعتها و اطمئنانها و تطرح ما لم تطمئن أليه على أن تعلل قرارها تعليلاً سائغاً
و لا يجوز الاعتماد على تقرير خيرة كدليل للإثبات يدخل ضمن الأدلة التي تشكل قناعة القاضي الجزائي ، إلا بعد أن يتمكن الخصوم من مناقشته و الرد عليه والإدلاء للمحكمة بملاحظاتهم حوله فان لم تمكن المحكمة الأطراف من ذلك كان حكمها باطلاً
و الخبرة هي مشورة فنية لا تشكل بحد ذاتها وسيلة إثبات إلا إذا اعتمدتها المحكمة في حكمها الأمر الذي يفيد بان تقرير الخبرة لا يكسب أحداً من الخصوم حقاً ، وإنما تكتسب الحقوق نتيجة الأحكام
ثانياً : القرائن :
وهي وسيلة إثبات غير مباشرة يستمد القاضي الجزائي قناعته منها بعد إخضاعها لمحاكمته العقلية عن طريق استنتاج وقائع مجهولة يراد إثباتها عن وقائع أخرى معلومة توجد بينها و بين الجريمة صلة سببية منطقية
أن القرينة الناتجة عن استنتاج سليم و منطقي تعتبر من الوسائل المهمة لربط عناصر الإثبات للوصول للحقيقة الساطعة وقد وضحت ذلك محكمة النقض في العديد من قراراتها عندما قالت أن القناعة الوجدانية في القضايا الجزائية يمكن أن تتولد عن شذرات متفرقة من الظروف أو الحوادث التي تشكل بمجموعها سلسلة من القرائن الموجبة لقناعة قضاة الموضوع
وان وجود قرينة واحدة في إثبات الجرم لا يكفي بل لا بد للقاضي لكي يحكم بالإدانة من الاستناد لعدة قرائن متضافرة على ارتكاب الجرم أو العكس
لذلك فان القرائن تخضع لتقدير القاضي وتأويله وله مطلق الحرية بالأخذ بها أو تركها جانباً .
ثالثاً : البينة الخطية :
وهي الأوراق التي تصدر إما عن موظف مختص بتحريرها فتكون عندئذ أوراقاً رسمية أو تصدر عن أفراد عاديين فتكون عرفية وهي أما إن تشكل جسم الجريمة ذاتها كالأوراق التي تحتوي على كلمات القدح والذم و التشهير أو تحمل تزويراً في متنها أو أن تشكل دليلاً على أثبات
الجريمة كالورقة التي تحمل اعترافاً من المتهم بارتكاب جرم الزنا أو أي جرم أخر
وشان البينة الخطية شان باقي الأدلة تخضع لتقدير القاضي سلبا أو إيجابا بعد أن يطلع عليها ويطلع الخصوم على مضمونها ويطرحها للمناقشة العلنية بحضور الخصوم ويحق للقاضي أن يستبعد دليلا كتابيا إذا لم يؤد إلى اقتناعه بعد طرحه على بساط البحث إلا ما نص عليه القانون بغير ذلك
الخاتمة
إن العدد الكبير من المجرمين يقترف جرائمه عن سابق تصور وتصميم ثم يحاول طمس المعالم والآثار الجرمية حتى ينجو من العقاب ولا يكتشف أمره ولذلك عمد المشترع لفتح الباب أمام القاضي الجزائي وترك له حرية الاقتناع في سبيل الوصول إلى الحقيقة والعدالة وعلى أساس مبدأ القناعة الوجدانية وذلك رغبة منه(المشترع)في أن لا يفلت أمثال هؤلاء المجرمين بجرائمهم مما جعل مبدأ حرية القاضي الجزائي في الاقتناع وتقدير الأدلة ركنا أساسيا من أركان العدالة الجزائية المعاصرة
نقلا عن الموقع الرسمى لطلاب التعليم المفتوح سوريا