علم النفس الشرعي وكشف الجرائم
ليس فينا من يجهل ما للمشاعر والمحسوسات من الارتباط بالأفكار والذكريات في الحياة العملية، فإنه ليس بغريب على فؤاد شاب كلف بحب فتاة أن يضطرب كلما ذكر اسمها أمامه، أو كلما وقع بصره على شيء من آثارها، كذلك إذا انقطعت صلاته بها زمانًا فإنه إذا شم مصادفة رائحة طيب كانت تتعطر به، بعث عبقه ذاكراها في نفسه مهما طال عليها العهد وتمثل طيفها لناظريه، وأحس في الحال لوعة غرامه الغابر، أو إذا سمع لحنًا كان قد ألف سماعه منها، فإن شجن اللحن قد يوقظ في نفسه شجو الغرام، مهما تعاقب على حبه السنون والأعوام، وتذكر على الفور ذلك المحبوب القديم، وارتسمت في المخيلة صورته، وبيده عوده أو قيثارته، يستنطق أوتارها وهو مستوٍ على أريكته، وشعر كأن نبرات صوته الرخيم، ترن في أذنه رنات طرب وحنين.
كذلك إذا نكب المرء بفقد عزيز له فإنه يتحاشى جهده أن يقع بصره على شيء من مخلفاته وآثاره، ويبالغ في إخفاء أمتعته وملابسه ومقتنياته وإقصائها عن حواسه، حتى لا تصطدم بمشاعره فننبه ذكرى صاحبها، فتذكى في نفسه نار الحزن والشجن، وقد نرى بعض الناس يهجرون مضاجعهم أو منازلهم، بل قد يهجرون مدينة بأسرها، فرارًا من الآلام النفسية التي تبعثها ذكرى الفراق.
والشواهد في حياتنا اليومية على ما للمشاعر من الارتباط بالأفكار كثيرة، فنقيق الضفادع قد يذكرنا بسكنى الريف، وصياح الديك في الليل البهيم قد يذكرنا بانبلاج الفجر وبزوغ النهار، وطبلة المسحر في خلال العام، قد تذكرنا بأيام الصيام، وقد يذكرنا وجه صديق باسمه، أو قد يذكرنا اسمه بمدينة أو بناحية أو بمكان، وقد تذكرنا رؤية مكان بعهد الطفولة أو بأيام الدراسة أو بمواقف الامتحان، وكذلك قد تذكرنا رائحة بطعم خاص، أو تذكرنا رائحة خاصة كالأثير أو اليودفورم بعملية جراحية أو بأيام الإقامة بإحدى المستشفيات، مع ما يتبع ذلك من استحضار الذهن صور الأطباء والممرضات وغيرها من مختلف الذكريات.
فهذه الظواهر الفكرية المختلفة قد لفتت نظر المفكرين من عهد أرسطاطاليس حتى الآن، وقد أطلق عليها علماء النفس من الإفرنج Association of Ideasومعناها حرفيًا (ترافق الأفكار)، ولكن قوانينها وأسبابها لم تدرس درسًا محكمًا منظمًا مبينًا على قواعد علمية صحيحة إلا من عهد قريب، فمن مجموعة هذه الظواهر المشتركة نشأ علم كامل منتظم، حتى لقد قام جماعة من كبار العلماء ينادون بتعليل كافة الظواهر الفكرية في جميع أدوار الحياة العقلية بأنها نتيجة فعل ظاهرة ترافق الأفكار، وقد عرفوا بأصحاب مذهب الترافق School of Associationists ، وفي مقدمة هؤلاء (لوك - Locke) (وهيوم - Hume)، و(هارتلي - Hartly)، و(جيمس مل - James Mill)، (وبين - Bain)، (وريبو - Ribot ) وغيرهم من فطاحل الفلسفة وجهابذة العلم.
فمن الروابط الفكرية ما هو ناشئ عن التلازم أو الاقتران حيث يذكرنا القرين بقرينه، ومنها ما هو ناشئ عن التشابه والتمائل حيث يذكرنا المثيل بمثيله، وهنالك من الروابط ما هو ناشئ عن مجرد التعاقب والتواتر حيث يذكرنا المتبوع بتابعه، وقد يذكرنا الجزء بالكل أو الكل بالجزء، أو قد يذكرنا اسم حيوان باسم فصيلته أو اسم نوعه أو اسم نظيره أو بقصة عن هذا الحيوان، أو بكتاب في التاريخ الطبيعي ورد ذكره فيه وغير ذلك من الاحتمالات التي لا تقف عند حد أو نهاية، غير أن علماء النفس لم يقتنعوا بمجرد تبويب الروابط العقلية وتقسيمها تقسيمًا نظريًا بل وجهوا جل عنايتهم ومعظم جهودهم إلى دراسة الأسباب التي تؤثر في تلك الروابط والعوامل التي تبعثها في النفس فتدعو إلى تنبيه خاطر دون خاطر، أو تبعث فيها فكرة دون أخرى، ووضعوا الأجهزة الدقيقة لقياس سرعة الخواطر والتفاعلات العقلية لكل نوع من أنواع الروابط الفكرية المختلفة، ففي أقل من نصف قرن نهض علم النفس التجريبي بمعامله الخاصة حاذيًا حذو علمي الكيمياء والطبيعة إذ وضعت الظواهر العقلية المختلفة تحت الفحص والاختبار بنفس الطرق المستخدمة في العلوم الطبيعية الأخرى فبتطبيق التجارب العملية أخذت دراسة (ارتباط الأفكار) تتجه في العهد الأخير اتجاهًا جديدًا، فالعالم النفساني في معمله لا يقنع بما قد يجنيه مصادفة في الحياة العملية اليومية من المشاهدات، بل يسعى خصيصًا وراء غاية مقصودة بالذات، دائبًا على العمل لاستخلاص القوانين وتأسيس القواعد والنظريات، ولذلك أمكن الوصول إلى نتائج حاسمة، حيث أصبحت لنظريات علم النفس فائدة تذكر في الحياة العلمية، فطبقت قوانين ارتباط الأفكار، أسوةً بكثير من فروع علم النفس التجريبي تطبيقًا عمليًا في التعليم والطب والهندسة والتجارة والفنون وغيرها من مرافق الحياة المختلفة، وأنه لمن المستغرب في وقتنا الحاضر عدم اتجاه أنظار رجال القانون إلى مثل هذه الأبحاث وتطبيق أساليب علم النفس الخاصة بدراسة تلك الظاهرة العجيبة واستخدامها في كشف الجرائم، فإننا في كثير من الحوادث نقف مكتوفي الأيدي ننظر مع الحسرة والألم إلى عجز الوسائل القانونية المألوفة في الوصول إلى إقرار بالحقيقة، إذ أن للإنسان مقدرة على إخفاء معلوماته وأفكاره أما بالأكاذيب وأما بالكتمان، وكلما زادت أساليب الحياة الاجتماعية ارتباكًا وتعقيدًا سهل على المجرم المحنك أن يخفي آثار جرائمه ويستر سيئاته بالمكر والخداع، ولهذا كان لا بد لنا من البحث عن وسائل أخرى تكشف لنا الحقائق وتميط عنها القناع، ونستعين بها على قراءة ما يخالج ضمير المتهم من الخواطر والأفكار، وما يكنه في صدره من الأسرار، ولا ملجأ لرجل القانون في هذا إلا طرق أبواب العلوم الأخرى، والتزود مما ادخرته من ثمرات الاكتشاف والاختراع، وظاهرة ارتباط الأفكار في مقدمة الوسائل العلمية التي نبلغ بها نحن معشر رجال القانون ذلك الغرض الأسمى الذي نسعى إليه وهو نشر لواء العدل بين الناس وصيانة أعراضهم وأرواحهم وأموالهم من عبث العابثين، والضرب على يد كل مجرم أثيم.
فأبحاث رجال العلم لم تقف عند حد استخدام هذه الظاهرة في المسائل الطبية وحل المعضلات النفسية في الأحوال المرضية بل تعدته إلى تطبيقها في غيرها من مختلف المسائل العمرانية ومنها كشف الجرائم، فوصلوا بما أجروه في ذلك من التجارب إلى نتائج جديرة بأن يعيرها رجل القانون كل عناية واهتمام، ولهذا رأيت أن أنقل في هذه الرسالة الصغيرة مجمل ما وقفت عليه من الأبحاث التي قام بها علماء الغرب في هذا الشأن، حتى إذا لم يكن لزملائي من ورائها شيء من الفائدة العملية ربما يكون لهم فيها بعض اللذة والتسلية العلمية، ولكن قبل أن أتكلم من الوجهة الفنية في تلك الظاهرة التي تشغل مقامًا خطيرًا بين مجموعة الظواهر العقلية وبيان أوجه الاستفادة منها عمليًا، أرى أن الموقف يتطلب ذكر كلمة عنها من الوجهة العلمية وفهم بعض نظرياتها وقوانينها حتى عند تطبيقها عمليًا تكون لنا بها من الخبرة والإلمام ما يكفي لتقدير مدى اعتمادنا عليها في الأبحاث الجنائية.
القسم الأول: البحث العلمي أو النظري
ظاهرة ارتباط الأفكار
Association of Ideas
أن ظاهرة (ترافق الأفكار) أو بعبارة أخرى (ارتباط الأفكار) أو (ارتباط الخواطر النفسية) كما اسميها هي تلك الظاهرة العقلية التي تمثل ما بين خواطر النفس المختلفة من روابط، بمعنى أنه إذا تنبهت في العقل فكرة أو ذكرى معينة أو إحساس خاص، أيقظ ذلك في الحال فكرة أخرى أو مجموعة أفكار وذكريات تجمعها بها روابط عقلية قديمة، فإذا كان العقل قد ألف أن يدرك شيئين مختلفين في الشكل ومتلازمين وجودًا، فإن إدراكه أحدهما أو تذكره إياه فيما بعد، من شأنه أن ينبه ذكرى الشيء الآخر بجانبه، مثال ذلك إذا كنت اعتدت أن أرى زيدًا وعمرًا متلازمين، فإذا اتفق لي رؤية أحدهما منفردًا فإني أتذكر زميله في الحال، وإذا كنت تعرفت بصديق في بلد معين في أثناء سفري أو سياحتي، فإن رؤية الصديق أو ذكراه قد تذكرني بذلك البلد، كما أن رؤية البلد أو ذكراه قد تذكرني بالصديق كذلك إذا حصل للإنسان حادث مزعج أو أليم أو حلت به فاجعة في وقت معين كوقت الغروب مثلاً، فقد ينبه الغروب عند مجيئه ذكرى الحادث أو الفاجعة، وإذا رأى الإنسان في عرض الطريق وجه شخص يشبه وجه صديق، قد يذكر في الحال ذلك الصديق، وإذا حفظ الإنسان أرقامًا بترتيب خاص أو كلمات قد لا تجمعها أي رابطة معنوية، فإن ذكرى إحداها قد يدعو إلى تذكر ما يليها من الأرقام أو الكلمات، وقد يذكرنا الأبيض بالأسود، أو البارد بالحار، أو الطويل بالقصير وهلم جرا، فبالتأمل في هذه الأمثال المختلفة يتبين أن العلة في إيقاظ فكرة بأخرى ترجع إلى وجود صلة عقلية تؤلف فيما بينهما وتجمعهما في المخيلة في آنٍ واحد، فالصلة في المثل الأول هي صلة تلازم أو اقتران، وفي المثل الثاني صلة مكان، وفي الثالث صلة زمان، وفي الرابع صلة تماثل، وفي الخامس صلة تعاقب وفي السادس صلة تضاد، وهناك صلات أخرى تجمع الأفكار المختلفة بعضها ببعض وتؤلف فيما بينها لا يتسع المجال لذكرها فضلاً عن كونها خارجة عن نطاق بحثنا.
فمما تقدم يمكننا أن نستخلص التعريف الآتي لظاهرة (ارتباط الخواطر النفسية) فهي خاصية تنبيه الأفكار أو الخواطر بعضها بعضًا بسبب سابقة ارتباطها في العقل برابطة فكرية مشتركة، أو بعبارة أوجز: هي تنبيه فكرة بأخرى تجمعهما ممارسة عقلية سابقة.
ومما يجب لفت النظر إليه أن هذه الظاهرة في مجموعها تشمل دورين من أدوار الإجراءات العقلية مختلفين ومستقلين بعضهما عن بعض، أحدهما سابق والآخر لاحق، فالسابق خاص بالرابطة التي ينشئها العقل بين فكرتين أو أكثر ويؤلف بينهما، وهذا يأتي من الخبرة والممارسة العقلية، وبعد أن يتم الارتباط بين الخواطر المختلفة ينتهي بذلك الدور الأول وهو دور التكوين، ثم تبقى الأفكار الموصولة كامنة في العقل إلى أن يأتي الدور اللاحق وهو دور العمل أو التنبيه، وذلك عندما تتنبه إحدى الفكرتين في العقل بفعل أي مؤثر من المؤثرات سواء كان ذاتيًا أو خارجيًا، فإن الفكرة التي تنبهت توقظ معها الأفكار الأخرى الكامنة السابق ارتباطها معها، والفرق بين العمليتين جوهري من حيث إن العملية الأولى إنشائية.
بخلاف الثانية فهي وظيفية أو عملية حيث تكون فيها الأفكار الكامنة في العقل قابلة للتفاعل بالمؤثرات أو المنبهات فهي ظاهرة تنبيه عقلية، فكما أن رائحة الطعام أو طعمه أو مضغه قد تنبه إفراز اللعاب أو العصارة المعدية، كذلك سماع بعض الأصوات أو لمس بعض الأشياء أو شمها أو رؤيتها أو مذاقها قد تنبه في العقل العصارة الفكرية، والعملية الأولى فيها معنى الإنشاء والتركيب كما تقدم، أما الثانية ففيها معنى التحليل، لأنها لا تولد فكرة جديدة بل من شأنها تحليل الأفكار التي في العقل قديمًا والدلالة على ما تتألف منه من الجزيئات، لهذا كانت عبارة Association of Ideas التي اصطلح عليها الأفرنج للتعبير عن هذه الظاهرة المزدوجة التركيب ليست دقيقة المعنى، لأن مدلولها قاصر على عملية الترافق أو الارتباط، وليس فيها معنى التنبيه أو التفاعل مع وضوح الفرق بين الأمرين ولذلك سأطلق على العملية الأولى (القران العقلي) [(1)] أو (الارتباط العقلي) تمييزًا لها عن عملية التنبيه نفسها التي سأدعوها (بالتفاعل العقلي) أو (تداعي الخواطر) [(2)] ولما كانت عملية التفاعل هذه تستلزم وجود خاطرين يحصل بينهما التفاعل فيؤثر أحدهما في الثاني وينبهه فسأطلق على التأثير الصادر من أولهما (التنبيه) أما الأثر المترتب عليه وهو تنبيه الخاطر الثاني وإيقاظه في الذاكرة فسأطلق عليه (رد الفعل) أو (التلبية).
ولأجل إيضاح ما تقدم أضرب لذلك مثلاً، وهو أن كلمة جمل التي تدل على ذلك الحيوان المعروف لنا بهذا الاسم، قد تبعث عند ذكرها صورته في المخيلة، غير أن معرفتنا لمدلول كلمة جمل تقتضي ممارسة العقل سابقًا سماع كلمة جمل عند رؤيته منذ عهد الطفولة، وذلك هو دور التكوين، فمن ذلك العهد ارتبطت كلمة جمل في العقل بمنظره وصورته وصوته وظلت هذه الصلة كامنة في العقل حتى إذا رأينا الجمل فيما بعد تذكرنا اسمه أو إذا سمعنا اسمه تذكرنا شكل أو صوته، وهذا هو دور التنبيه، والذي دعاني إلى اختيار التمثيل بالجمل هو أني وقت كتابة هذه السطور كنت اسمع رغاء جمل خارج المنزل، فذلك الصوت أيقظ في ذهني صورة الجمل، وصورة الجمل أيقظت اسمه، لأن كلاً منهما ارتبط في ذهني قديمًا بالآخر، فالخبرة القديمة تمثل عملية القران (أو الارتباط العقلي) أما تنبيه ذكرى الجمل في ذهني عند سماعي صوته، فتمثل ظاهرة (التفاعل العقلي) الناشئ عن صوت الجمل، والوظيفة التي قام بها ذلك الصوت من حيث تذكيري بالجمل هي (التنبيه)، والأثر المترتب عليها وهو ظهور صورة الجمل في مخيلتي أو تنبيه اسمه في ذاكرتي هو (رد الفعل) أو (التلبية).
ومما تقدم يتضح صعوبة إيجاد كلمة واحدة أو عبارة واحدة تشمل عمليتي (القران) (والتفاعل) معًا، وبما أنه جرى العرف والاصطلاح قديمًا على التعبير عنها (بارتباط الأفكار - Association of Ideas.) لتمثل كلتا الظاهرتين بصفة عامة، فلست أرى موجبًا للعدول هنا عن المألوف، وسأستخدمها كلما أردت التعميم بما أن مدلولها سيكون مفهومًا بالقرينة، وإذا اقتضى الحال التخصيص في بعض المواضع أشير إلى ذلك في سياق الكلام بما يدل عليه بإحدى الاصطلاحات الخاصة المتقدمة الذكر.
أسباب ظاهرة ارتباط الأفكار وتعليلها
لقد حار العلماء في كيفية تولد ظاهرة ارتباط الأفكار، وفي علة وجودها، فبعضهم شبهها بالجاذبية، ومن بين هؤلاء العالمان ريبو وهيوم، وبعضهم كالعلامة وليم جيمس أرجعها إلى (قانون الاعتياد العصبي - The Law of neural habit) أي أن المرجع فيها إلى العادة التي ألفها العقل عن طريق الممارسة والخبرة، وقد وضع لها القاعدة الآتية:
When two elementary brain - processes have been active together or in immediate succession, one of them, on recurring, tends to propagate its excite - ment into the other
ومعنى ذلك:
إذا قام العقل بعمليتين عقليتين في وقت واحد أو على التعاقب فإن تنبيه إحداهما في العقل ثانيًا من شأنه أن يؤدي إلى تنبيه العملية الأخرى معها.
والعادة (في نظره) من شأنها أن تجعل انتقال التيار العصبي بين مركزين عقليين سهلاً والطريق بينهما ممهدًا، وعلى ذلك فالتنبيه الذي يقع على أحد هذين المركزين فيما بعد يمتد منه إلى المركز الآخر.
وقد حاول بعض العلماء رد هذه الظاهرة إلى وظيفة عضوية أو أسباب فيزيولوجية ترجع إلى كيفية تركيب الخلايا العصبية في المخ مستندين في ذلك على ما أظهره أخيرًا علم التشريح الدقيق من وجود ألياف عصبية تصل المراكز العصبية المختلفة بعضها ببعضها الآخر سميت (ألياف الاتصال - Association fibers) وقالوا إن التيارات العصبية تنتقل من مركز إلى مركز عن طريقها، وإن الخبرة أو الممارسة من شأنها أن تمهد ذلك الطريق وتجعله أكثر صلاحية وأعظم قابلية لنقل التيارات، ومما يزيد هذا التعليل وجاهة كشف مراكز عصبية تصل بينها ألياف من هذا القبيل في المنطقة المعروفة باسم المنطقة الصامتة Silent region، وهي إحدى مناطق اللحاء أي القشرة (Cortex) (وهي الطبقة العليا السنجابية للمخ)، ومركزها المساحة التالية للالتصاق المعروف باسم التصاق رولاندو Fissure of Rolando في الجزء المقدم للفص الجبهي، وقد سميت بالصامتة لخلوها من مراكز الحس والحركة، ويعتقد بعضهم أنها موطن التفكير ووكر المواهب العقلية وفي مقدمة القائلين بهذا الرأي العلامة (فلشسج Flechsig) أول كاشف لتلك المراكز التي سماها (مراكز الاتصال - Association centres)، وكان يظن في بادئ الأمر أن هذه المنطقة ليست لها وظيفة حيوية مع أن نسبة مساحتها في مخ الإنسان أكبر منها في القرد والحيوانات الأدنى مرتبة من الإنسان، وذلك نظرًا لأن تلف جزء منها أو إصابته لا يترتب عليه أحداث أعراض ظاهرة في وظائف الحس أو الحركة، ولكن ظهر بالتجربة العلمية أن الإنسان مع ذلك يفقد مجموعة من مواهبه الفكرية الراقية ومعلوماته المكتسبة بالخبرة والمران تختلف باختلاف موضع الإصابة، فقد روي العلامة (هليبرتون - Huliburton) في كتابه علم وظائف الأعضاء صفحة 732 أنه حدث مرة انفجار في منجم فأصيب أحد العمال بكشط جزء من المنطقة الصامتة للّحاء، ولما شفي من إصابته لم تظهر عليه أي أعراض تستحق الذكر وعاد إلى عمله، ولكنه لم يلبث طويلاً حتى اتضح أنه غير أهل له، إذ تبين أن الوظائف العليا للمخ والمواهب الفكرية الراقية قد تأثرت بسبب الإصابة.
وفضلاً عن ذلك فإنه لوحظ أن بعض المعلومات الاكتسابية قد اتخذت لها مواطن أخرى مجاورة لمراكز الحس في الطبقة السنجابية بحيث إن إتلاف جزء من تلك الطبقة في المساحة المجاورة لمركز السمع (ومجلسة القسم الخلفي للتلفيف الصدغي الأعلى) يترتب عليه فقدان الإنسان معلوماته السماعية، وإتلاف الجزء المجاور لمنطقة البصر (ومجلسها الفص المؤخر للمخ) يترتب عليه فقدان المعلومات البصرية مع بقاء حاستي السمع والبصر سليمتين لأن مراكز كل منهما نفسها لم تمس، وأصحاب الرأي المتقدم يستندون فوق ذلك في تأييد حجتهم بإسناد ظاهرة ارتباط الأفكار إلى أسباب طبيعية في المخ بما يشاهد من نمو ألياف الاتصال وتقويتها وازدياد تشعب أطرافها وتعاشقها بتفرعات المراكز العصبية الأخرى المقابلة لها وذلك بالتمرين والممارسة وبما يشاهد من ضمورها وتفككها عن التفرعات المقابلة لها بالترك وهجر التمرين، كما أنه وجد أن للمران العقلي أثرًا محسوسًا في نمو نفس الخلايا التي تتألف منها المراكز العصبية، فإن إتلاف شبكية العين أو العصب البصري منذ الطفولة من شأنه أن يوقف نمو الطبقة السنجابية للفص المؤخر عند مراكز الإبصار، وأن خلاياه العصبية تبقى ضامرة ضعيفة، والألياف المتفرعة منها والتي وظيفتها نقل التيارات العصبية من مركز لآخر تكون رقيقة قليلة التشعب، وما ذلك إلا لإهمالها وحرمانها من المران على العمل، فكما أن المران الجثماني يقوي العضلات وباقي أنسجة البدن، كذلك المران العقلي يقوي المراكز العصبية الخاصة بكل نوع من أنواع الخبرة والتربية العقلية وينمي خلايا تلك المراكز ويقوي أليافها العصبية.
انظر الشكل الآتي نقلاً عن كتاب علم النفس للأستاذ (وود وورث - Woodworth R. S.) فهو يمثل خليتين عصبيتين لمركزين من مراكز الخبرة بأليافهما العصبية قبل التمرين وبعده.
والذي يهمنا من كل ما تقدم هو إثبات أن الخبرة التي يمارسها الإنسان في جميع أدوار حياته
تترك أثرًا محسوسًا في خلايا المجموع العصبي وأنسجته، وأنها تبقى فيه كامنة مستعدة للظهور كلما سنحت الفرصة بتنبيهها، ويمكن التدليل على ذلك عمليًا بالتجارب الحيوية (البيولوجية) أيضًا، وذلك أننا إذا جئنا بضفدعة وقطعنا رأسها وبعد قطع الرأس غمرنا إحدى ساقيها في محلول من الحامض الكبريتي شاهدنا أن الساق تنكمش كما لو كانت تقصد أن تنثر الحامض عن الجلد أو تتجنبه، فالتنبيه يبدأ من أطراف الأصابع متجهًا نحو مركز الحس في النخاع الشوكي، ثم ينتقل منه إلى مركز الحركة، فأعضاء الحركة المخصصة للدفاع بوساطة العصب المحرك، فإذا استخدمنا بدل الحامض المركز حامضًا مخففًا وغمرنا الساق فيه ألفيناها في بادئ الأمر لا تنكمش، وما ذلك إلا لكون التنبيه الواقع على مركز الحس في هذه المرة كان ضعيفًا بحيث لم يكفِ لإيقاظ مركز الحركة ودفع الأعضاء إلى العمل، ولكن بتكرار غمر الساق عدة مرات متواليات في السائل المخفف المذكور يبدأ أثر التنبيه في الظهور في المرة العاشرة أو الحادية عشرة، ثم يقوى تدريجيًا حتى إذا ما وصلنا إلى المرة الخامسة عشرة أو العشرين تقريبًا وجدنا الساق تتقلص تقلصًا محسوسًا وتمثلت فيها نفس الحركة التي شوهدت أولاً عند وضعها في السائل المركز في التجربة الأولى، فإذا راعينا أن السائل المخفف لم تتغير قوته طول مدة التجربة الأخيرة وأن غمر ساق الضفدعة فيه آخر دفعة لا يختلف عنه في أول دفعة، أمكننا أن ندرك أن الأثر المحسوس الذي وصلنا إليه في النهاية هو نتيجة تراكم التأثر الحسي في مركز الحس، إذ بتكرار عملية غمر الساق حوالي عشرين مرة تجمعت في هذا المركز كمية من الإحساس في الدفعة الأخيرة تزيد نحو عشرين ضعفًا عليها في الدفعة الأولى، وبذلك أصبحت فيه كمية الإحساس كافية لتنبيه مركز الحركة ودفع العضلات إلى العمل.
هذه الخبرة الحسية المتكررة لم تضع سدى بل ظلت محفوظة في المركز العصبي المخصص لها فترة من الزمن، وبناءً على هذا يمكننا أن نعتبر أن الخلايا العصبية للنخاع الشوكي للضفدعة لها نوع من الذاكرة، ولا شك في أن هذه الخاصية تكون في المراكز العصبية لمخ الإنسان أكثر وضوحًا وأرقى درجة منها في نخاع الضفدعة المفصومة الرأس، فالمراكز العصبية تبقى متأثرة بهذه الخبرة طويلاً، ولكن لا يؤخذ من هذا أن يبقى التأثر محسوسًا باستمرار بل ينقطع الشعور به بانقطاع المنبه أو المؤثر، إذا لولا ذلك لأصبحت حياة المخلوق وبالأخص الإنسان عبئًا ثقيلاً لا يطاق، فمن منا يطيق أن يستمر سامعًا ورائيًا كل ما اتفق له سماعه من الأصوات ورآه من المناظر بدون انقطاع ؟
كذلك إذا حل بالإنسان حادث محزن فإنه يترتب على عدم انقطاع الشعور به ملازمة تأثيره السيئ له طول الحياة.
فالخبرة الماضية - وإن كان الإحساس بها يكون معدومًا في معظم الأحيان - موجودة بالفعل ولكنها كامنة في باطن العقل راكدة في قاعة، وما ذلك إلا لنفع الإنسان وخيره أيضًا، لهذا كانت مقدرة الكائنات الحية على الاحتفاظ بمعلوماتها الماضية بنسبة رقيها، ففي الأحياء الأولية أو الدنيئة المرتبة يشاهد أن جميع الأفعال تكون خاضعة لتنبيه المؤثرات الخارجية مباشرةً سواء كانت طبيعية أو كيميائية، أما الأحياء الراقية فإنها لا تستطيع أن تعيش مقتصرة على ما تحدثه بها المنبهات الخارجية من الأثر الوقتي والذي يزول بزوال المؤثر، بل هي في أشد الحاجة إلى الاحتفاظ بما مر بها من الخبرات والتجارب حتى يمكنها بذلك أن تربط ما بين الماضي والحاضر وتهيء لنفسها العدة للمستقبل، وفي حياة الإنسان ترى أن مشاعره الوقتية لا تكون إلا جزءًا يسيرًا من مجموعة حياته العقلية وأفكاره وأن جل اعتماده على ما خبره من الحوادث وكابده في ماضي حياته أو حصل عليه من المعلومات على ممر الأيام والأعوام.
تقسيم ارتباط الأفكار من حيث التفاعل العقلي أو التداعي
عرفنا مما سلف أن التفاعل العقلي أو ظاهرة التداعي تستدعي وجود فكرتين أو خاطرين أحدهما يقوم بوظيفة التنبيه والثاني يتأثر بنداء الأول فيتنبه، واصطلحنا على تسمية العملية الأولى (بالتنبيه) وتسمية الأثر المترتب عليها (برد الفعل) أو (التنبيه)، فالتلبية قد تكون صورة حسية وقد تكون مجرد معنى أو لفظ، ولقد ذهب علماء النفس إلى تقسيم ظاهرة التداعي تبعًا لنوع التلبية إلى تداعي حسي وتداعي معنوي لفظي، ولما كان التداعي اللفظي هو الذي يعنينا في بحثنا الحالي أكثر من سواه فسأجتزئ بذكر كلمة مجملة عن القسمين الأولين خشية أن يعد التوسع فيهما خروجًا عن الموضوع.
فالتداعي الحسي: هو الذي تكون التلبية فيه إيقاظ صورة حسية في الذهن، بمعنى أن التنبيه في هذه الحالة يبعث ذكرى إحساس قديم، كما لو وقع بصري على شراب ذقته من قبل فتذكرت طعمه أو رائحته، أو شممت رائحة الموز فتذكرت طعمه ولونه، أو سمعت تغريد طائر فتذكرت لونه أو صورته، أو رأيت القيثارة فتصورت صوتها، أو قرأت اسم شخص في صحيفة فتخيلت شكله.
والتداعي المعنوي: هو الذي تكون التلبية فيه غير حسية بل معنوية بحتة بمعنى أنها ليست استعادة صورة من صور الحس المختلفة، مثال ذلك إذا وقع بصري على خطاب جاءني من صديق فتذكرت أمرًا كلفني به، أو إذا رأيت كتابًا فتذكرت أن أعيده لصاحبه، أو سمعت بمرض شخص فتذكرت النتائج التي تترتب على وفاته، وهذا لا يمنع أن يصحب هذا النوع من أنواع التداعي في كثير من الأحيان صورة حسية، كما لو كنت أتخيل وجه صديقي في المثل الأول عند ما يقع بصري على خطابه أو تحضر في ذهني صورة من أعارني الكتاب في المثل الثاني أو صورة المريض في المثل الثالث.
تداعي الألفاظ
Word Association
أما التداعي اللفظي: فالمقصود به أن لفظًا ينبه في الذهن لفظًا آخر بمعنى أني أذكر للشخص كلمة (رجل) مثلاً واطلب منه أن يجيبني بأول كلمة تخطر بباله بعد سماعه هذه الكلمة فيجيبني بقوله امرأة (مثلاً) فالتنبيه هنا هو لفظ (رجل)، والتلبية هي لفظ (امرأة)، كذلك أن قلت له (باب) فقد يكون جوابه (شباك)، أو قلت له (كرسي) فربما يكون الجواب (مكتب) وكثيرًا ما يثير التنبيه اللفظي جوابًا أو تلبية لفظية بطريقة آلية بحتة من غير أن يكون للفكر أو التأمل أقل دخل فيها.
وينقسم التداعي اللفظي قسمين، تداعيًا مقيدًا، وتداعيًا مطلقًا، فالتداعي المقيد هو الذي يستدعي تلبية خاصة أو جوبًا معينًا تلقاء تنبيه معين، كما لو وجهت لشخص سؤالاً ليس له إلا جواب واحد وطلبت منه الإجابة عليه، بأن أذكر له اسم مملكة ليجيبني باسم عاصمتها، أو كلمة أجنبية طالبًا منه تعريبها، أو طلب منه حاصل ضرب عدادين معينين، أو أعرض عليه صورة حيوان لكي يذكر اسمه بمجرد النظر إليه وهكذا، وأما التداعي المطلق فهو الذي تترك فيه الحرية للشخص المختبر ليجيب بأول كلمة تخطر بباله أيًا كانت بمجرد سماعه كلمة التنبيه، من غير تقييده بجواب خاص فأذكر له مثلاً كلمة (شجرة)، وأطلب منه أن يجيبني بأول كلمة ترد على ذهنه بعد سماعه إياها بأقصى ما يمكنه من السرعة، فقد يكون جوابه مثلاً (نخلة) وقد يكون (نبات) أو (ثمر) أو (فرع) أو (بستان) أو (أخضر) أو (إتلاف) وهلم جرا.
والفرق بين التداعي المقيد والتداعي المطلق أن الأول موضوعي في نوعه بمعنى أن التلبية فيه تابعة لموضوع التنبيه ومرتبطة به, فهي جواب مقيد بموضوع السؤال، أما التداعي المطلق فهو شخصي لأن التلبية فيه تتبع أفكار الشخص وحالته النفسية في اللحظة التي صدر فيها التنبيه، والنوع الأول يرمي البحث فيه غالبًا إلى تقدير سرعة الخاطر وقوة استدعاء المحفوظات ومعرفة مقدار رسوخها في الذهن.
أما النوع الثاني فإنه ربما لا يدل على شيء متعلق بملكة الحفظ وإنما يدل على ما طبع قديمًا في الذهن ولو عرضًا، كما أنه يدل على اتجاه مجرى الأفكار ويساعد الباحث على اقتفاء أثر العقل في جولاته الباطنية، وقد يدل على عقلية الشخص ووجهة نظره الخاصة تلقاء تنبيه معين، مثال ذلك إذا قلت للشخص كلمة (كلب) مثلاً فإن كان جوابه (قط) أدركت أنها نبهت في ذهنه فكرة النظير أو القرين، وإن كان جوابه (حيوان) دلتني هذه التلبية على تسلط فكرة التعميم، وأن قال (أرمنتي) دل ذلك على اتجاه فكره نحو (التخصيص)، وأن قال (أمانة) دلت على اهتمامه بهذه الصفة من صفات الكلب، فإذا كانت أجوبة الشخص في مجموعها يغلب عليها التعميم دل ذلك على عقلية تختلف عنها فيما لو كانت الأجوبة يغلب عليها التخصيص أو تغلب عليها فكرة القرين والنظير أو الصفة.
وقد لوحظ بالتجربة أن متوسط سرعة الخواطر في التداعي المقيد تختلف عنها في التداعي المطلق، فهي في الأول أكثر سرعة منها في الثاني بمعنى أنه إذا كان متوسط سرعة الخاطر لشخص معين في التداعي المقيد نصف ثانية فقد يكون متوسط سرعة خاطره في التداعي المطلق ثلاثة أرباع الثانية أو ثانية كاملة، ولعل ذلك راجع إلى أن التكرار والتمرين اللذين يتطلبهما الحفظ من شأنهما تقوية الروابط العقلية وتسهيل التداعي، كما أن للانفعالات والتأثرات النفسية أثرًا خاصًا في تأخير سرعة التداعي على العموم والتداعي المطلق على الخصوص، وقد وضعت أجهزة دقيقة لقياس هذه السرعة بها يمكن رصد الأفكار والخواطر التي تصحبها انفعالات وبذلك يمكن تمييزها من الخواطر العادية أما الطريقة العملية لذلك فسيأتي الكلام عليها في القسم الفني.
العوامل التي تؤثر في متانة الروابط الفكرية
إننا إذا جهزنا عشر بطاقات لكل واحدة منها لون خاص ثم جهزنا عشر بطاقات أخرى صغيرة مكتوب على كل منها عدد معين مؤلف من رقمين إلا بطاقة واحدة كتب عليها عدد ثلاثي الأرقام ثم استعرضنا البطاقات الملونة واحدة بعد الأخرى بعد أن أرفقنا بكل منهما عددًا من الأعداد السالفة الذكر وبعد الفراغ من استعراض عشر البطاقات على هذا النحو كررنا استعراض بطاقة منها مرة ثانية وبعد ذلك فصلنا بطاقات الأعداد عن بطاقات الألوان بعد التأشير على كل من الأولى بما يدل على اللون الذي كان مرفقًا بها وأخذنا بعد ذلك نستعرض البطاقات الملونة منفصلاً عنها أعدادها وعند استعراض كل لون دون في مذكرة خاصة العدد الذي ارتبط في ذهننا به فإننا نشاهد ثلاثة أمور جديرة بالملاحظة وهي أن العدد الذي استعرضناه في النهاية والعدد الذي كررنا عرضه والعدد المؤلف من ثلاثة أرقام هي أقرب الأعداد ارتباطًا في الذهن مع ألوانها من باقي الأعداد الأخرى.
ما الذي يمكننا استنباطه من هذه الملاحظات ؟ إننا مع التأمل يمكننا أن نتبين وجود ثلاثة عوامل مختلفة من شأنها تقوية الروابط الفكرية وهي:
1 - حداثة العهد.
2 - التكرار.
3 - الغرابة والاهتمام.
فالخبرة الحديثة العهد أقرب إلى الذهن من القديمة، والمتكررة أقرب إليه من غير المتكررة، وما فيها غرابة أو شذوذ من نوع ما أقرب إليه من العادية.
فإذا رأيت زيدًا سائرًا مع عمرو من أسبوع مضى ثم قابلته بالأمس سائرًا مع خالد، ثم قابلت زيدًا منفردًا في صباح اليوم، فإن رؤية زيد تجعل ذكرى خالد في الظروف العادية أقرب إلى ذهني من ذكرى عمرو، وكذا لو كنت قابلت زيدًا مع عمرو مرة واحدة وقابلته مع خالد أكثر من مرة، وإذا اتفق لي أن رأيت زيدًا يطعن بكرًا بسكين فإني إذا قابلت أحدهما فيها بعد منفردًا تذكرت الآخر ولو بعد حين نظرًا لما أثاره هذا الحادث في نفسي من الاهتمام، ومن قبيل ذلك إذا صدمتني عربة أو سيارة وأتيح لي أن أقرأ رقمها حال فرار السائق بها، فإني قل أن أنسى هذا الرقم لما له في نظري من الأهمية التي نشأت عن الحادث الذي ارتبط به في ذهني، مع أني كثيرًا ما أقرأ أرقام العربات والسيارات حال مرورها بجانبي في الطريق ثم أنساها على الفور لأنها لاتهمني كذلك لو رأى الإنسان لأول مرة في حياته تنفيذ حكم الإعدام في شخص شنقًا أو رميًا بالرصاص فإنه عند ذكر كلمة إعدام أو قراءتها تتنبه في ذهنه صورة ذلك الشخص على الفور ويتمثل منظره في مخيلته وهو مدلى والحبل في عنقه أو وهو مجدل ورصاص البنادق قد مزق صدره، وأنا نفسي لا زلت حتى الآن كلما قرأت أو سمعت كلمة إعدام أذكر المتهمين الذين أعدموا في حادث السردار ولو أني لم أحضر تنفيذ الحكم فيهم وإنما نظرًا لأهمية الحادث ولأني قرأت خبر إعدامهم في الصحف وأنا في حالة تأثر وانفعال فقد ربط هذا الحادث في ذهني بكلمة إعدام ربطًا محكمًا.
فالانفعال النفسي عامل من أقوى العوامل التي تزيد الروابط العقلية متانة وليس فينا من يجهل ما للحوادث المريعة من الأثر الشديد في نفس أثرًا قد يدوم زمنًا طويلاً أكثر مما يتصوره الإنسان لأول وهلة، فإنه قد يصيب المرء في عهد طفولته حادث يملأ نفسه الصغيرة رعبًا ويبقى الانفعال مكتومًا فيها، ثم يظهر بعد عشرات الأعوام في شكل اضطرابات نفسية عندما تتنبه الذكريات القديمة بمؤثرات خارجية قد يتعرض لها الإنسان في مستقبل الحياة.
زمن التداعي أو قياس سرعة ورود الخواطر
إن سرعة الخواطر تختلف باختلاف الأشخاص، كما تختلف باختلاف الظروف والأحوال النفسية لدى الشخص الواحد، وتختلف كذلك باختلاف أنواع الروابط العقلية والموضوعات التي يجرى فيها الاختبار، والمراد بقياس سرعة الخواطر هو معرفة ما يلزم من الزمن لاستحضار الخواطر وإيقاظها في الذهن بأقصى ما يمكن من السرعة، وذلك يتم بقياس الزمن الذي يمضي بين التنبيه وورود التلبية في الذهن.
ولما كان لقياس سرعة الخواطر أهمية كبرى في الأبحاث النفسية فقد وضع لهذه الغاية جهاز كهربائي دقيق أطلق عليه اسم (الكرونسكوب - Chronoscope) أي كاشف الزمن أو مقدر الزمن وهو آلة تشبه الساعة ذات عقربين كل منهما يلف حول دائرة مقسمة إلى مائة درجة، وأحدهما يدور بسرعة عشر دورات في الثانية، ووظيفة العقرب الآخر تسجيل عدد دورات العقرب الأول في كل ثانية، وهذه الآلة تدار بالكهرباء، وتستمد ما تحتاج إليه من التيار من بطارية كهربائية ويتفرع من الآلة سلكان في طرف كل منهما جهاز صغير، أحدهما يضعه المختبر في فمه ومن شأنه أن يصل التيار القادم من البطارية بالآلة بمجرد تحريك الشفتين للكلام والثاني يضعه الشخص المختبرَ في فمه ومن شأنه أن يقطع التيار، فبمجرد أن يلفظ المختبر كلمة التنبيه يتصل التيار الكهربائي بالكرونسكوب فيدور العقرب، وبمجرد أن يلفظ المختبر كلمة التلبية ينقطع التيار فيقف العقرب، وبذلك يمكن قراءة الزمن الذي سجلته الآلة بين التنبيه والتلبية بجزء من ألف من الثانية، غير أن هذا الزمن يشمل بجانب الزمن اللازم لعملية التداعي أيضًا الزمن اللازم لسماع كلمة التنبيه وفهمها وتنبيه مركز الكلام فالنطق وغير ذلك من العمليات العقلية الجزئية، ولكن هذه من الميسور تقدير زمنها بصفة مستقلة عن زمن التداعي وذلك بأن يقاس الزمن اللازم لمجرد تكرار الكلمة ذاتها بدون تسخير العقل في إجراء أي تداعٍ، ثم يطرح الزمن المذكور من زمن التجربة في حالة إجراء التداعي والناتج هو الزمن الذي استغرقته عملية التداعي مجردة عن باقي الإجراءات العقلية الأخرى، فإذا وجدت مثلاً أن التداعي بين رأس وقدم استغرق ثانية، و297 جزءًا من ألف جزء من الثانية في حين أن مجرد تكرار كلمة رأس استغرق 456 جزءًا من ألف من الثانية، فإن الفرق الناتج بينهما وهو 841 من ألف من الثانية هو الزمن اللازم لاستحضار كلمة قدم في الذهن.
وبتكرار هذه التجربة مع الشخص في عدة كلمات يمكن استخلاص متوسط سرعة ورود خواطره أو زمن التداعي الخاص به، وقد لوحظ أن هناك مستوى معينًا للعقلية الطبيعية للشخص بحث إذا تجاوزه سرعة أو بطئًا دل على حالة غير عادية أو غير طبيعية في العقل كوجود اضطراب عقلي أو انفعال نفساني.
ولقد درست الظواهر العقلية عن طريق قياس سرعة ورود الخواطر درسًا متقنًا في العهد الأخير، فأمكن فحص القوى العقلية البشرية بتعمق بمثل هذا الجهاز الدقيق وحساب الفوارق الزمنية ورصدها في كل خاطر من الخواطر المتباينة، وقد كشف الاختبار أن أقل خاطر يمر بالذهن يستغرق زمنًا يمكن رصده بمراعاة حساب مثل هذه الفوارق الطفيفة، والتي لم يكن في وسع الإنسان ملاحظتها من غير الاستعانة بمقياس زمني دقيق كهذا، وتوصل علماء النفسي أخيرًا إلى نتائج باهرة بحيث أمكن تطبيق قواعد ارتباط الأفكار في الحياة العلمية واستخدامها في التعليم والطب والفنون والصنائع والتجارة والقانون، ولما كان هذا الأخير هو الذي يهمنا أمره في بحثنا الحالي دون سواه فسيكون الكلام قاصرًا عليه من الوجهة العملية.
[(1)] القران في اللغة هو الجمع بين شيئين فيقال قرن الشيء بالشيء أي وصله به، وقرنت الأساري في الحبال أي ربطت بالحبال، والقرن الحبل إذا قرن به بعيران وهو مأخوذ من قولهم قرن الشخص للسائل إذا جمع له بعيرين في قرن واحد أي حبل واحد.
[(2)] إن كلمة التداعي ليس معناها هنا الأيلولة إلى السقوط بل المقصود بها أن الخواطر تدعو بعضها بعضًا ففيها معنى التفاعل وقد سبق استعمالها فيما ما وضع من الكتب العربية في علم النفس أخيرًا حيث عبر فيها عن ظاهرة ارتباط الأفكار (بتداعي المعاني) ولكني فضلت هنا تداعي الخواطر بدلا عن تداعي المعاني حتى لا يقع ليس بين التداعي المعنوي والتداعي الحسبي والتداعي اللفظي كما سيأتي الكلام عليه.
القسم الثاني: البحث الفني أو العملي
عملنا مما مر بنا عند الكلام على ظاهرة ارتباط الأفكار من الوجهة النظرية أنه توجد ثلاثة عوامل رئيسية تؤثر في متانة الروابط الفكرية، وهي حداثة العهد، والتكرار والأهمية، ويلحق بالأهمية الغرابة والشذوذ والروعة والانفعالات النفسية وبالجملة كل ما يثير في النفس أي اهتمام، فإذا ارتكب شخص جريمة خطيرة كجريمة قتل مثلاً، فإن هذا الحادث يترك في نفسه أثرًا شديدًا يربط الوقائع في ذهنه ربطًا محكمًا ربما يدوم زمنًا طويلاً، وبالأخص إذا كان المتهم مجرمًا بالمصادفة أو حديث العهد بالإجرام لم تجمد عواطفه ولم تنضب موارد تأثراته وانفعالاته، فإن عقله يُصبح شديد التنبيه بكل ماله علاقة بجرمه، عظيم القابلية للتأثر بذكرياته، وتضحى نفسيته ميدانًا صالحًا لأن يباشر فيه الباحث تجاربه واختباراته، وإذا كان الجرم قريب الوقوع ولم يمضِ عليه زمن تكون قد هدأت فيه ثورة نفس مقترفة اجتمع بذلك لدى الخبير عاملان قويان يعملان على تقوية الخواطر التي ارتبطت في ذهن المتهم بوقائع الجريمة ويساعدان على تشخيص نفسيته تشخيصًا فنيًا دقيقًا، وهما عاملا الخطورة وحداثة العهد.
فإذا فرض وكان غرضنا اختبار شخص متهم بجريمة قتل مثلاً لنعرف أهو الذي ارتكبها أم لا وكان المتهم منكرًا معرفته القتيل إنكارًا باتًا ويدعي أنه لم يره ولم يدخل منزله في حياته قط ولا يعرف عن وقائع الحادث وظروفه شيئًا، فإننا إذا عرضنا عليه أمر اختباره بالتداعي اللفظي The word association test فهو لا يمانع عادةً في إجراء هذا الاختبار لأنه يبدو له تافهًا لأول وهلة، وسواء كان المتهم بريئًا أو مدينًا فلا ينتظر منه الرفض، لأنه إن كان بريئًا فهو لا يرفض لأنه لا يخشى ظهور الحقيقة بل بالعكس يهمه إظهارها، وإن كان مدينًا فهو لا يرفض أيضًا لأن الرفض مجلبة للشبهة وسوء الظن، وهو ما لا يرضاه لنفسه، هذا فضلاً عما يعتقده من أن في مقدوره أن يصون لسانه عن ذكر أي لفظ له علاقة بالحادث أو في معناه ما ينم عن أسراره معتمدًا على أن الاختبار لا يقتضي منه شيئًا أكثر من ذكر أول كلمة تخطر بباله جوابًا لما يُلقى عليه من الكلمات.
فعلى هذا الاعتبار يقبل الشخص أن يسلم نفسه للاختبار طائعًا مختارًا مطمئنًا، ولكن سرعان ما تفسد التجربة عليه ظنه وتهدم صرح طمأنينته وعقيدته، وذلك عند ما يشهد أفكاره وخواطره المكتومة تتدفق نحو مخيلته ثم تدفع بعضها بعضًا إلى الخروج من فمه رغم أنفه.
أما أدوات الاختبار فتنحصر في (كرونسكوب) وقائمة مجهزة من عدد وافر من الكلمات المختلفة (وجرت العادة أن تكون مائة كلمة) ينتخب من بينها ثلاثون أو أربعون لها صلة بالجريمة ووقائعها وظروفها ومحتوياتها والإجراءات والتدابير التي اتخذت لتنفيذها والأشخاص الذين اشتركوا فيها أو كانوا حاضرين وقت وقوعها والبواعث التي أدت إلى ارتكابها وهلم جرا.
أما طريقة الاختبار فهي أن يطلب من المختبر أن يلفظ أول كلمة ترد على ذهنه بمجرد سماعه كل كلمة تُلقى عليه من الكلمات الواردة في القائمة على أن يكون جوابه عليها بأقصى ما يمكنه من السرعة ثم ترصد الأجوبة في مذكرة كما ترصد أزمنتها بدقة بوساطة الكرونسكوب.
وإعداد القائمة المئوية هو أول عمل تجب العناية به عناية خاصة لأن اختيار الكلمات التي لها ارتباط بالحادث وكيفية توزيعها بين باقي الكلمات الواردة بالقائمة مما يتطلب مهارة فنية وخبرة واسعة كما أن كشف التأثرات النفسية وتحديد مدلولها يحتاج لكثير من دقة الفكر وقوة الملاحظة إذ قد يتفق أن يكون للمتهم من المقدرة وقوة ضبط النفس ما يكفي لعدم إظهار أفكاره وخواطره الحقيقية بطريقة مباشرة على أنه مع ذلك يمكن للباحث المدقق كشفها بطريقة استدلالية أو غير مباشرة لأنه بسبب وقوع مثل هذه الخواطر تحت ضغط الإدارة تبقى مائلة في المخيلة وكثيرًا ما يظهر أثرها في الجواب التالي أو الذي يليه وربما انطلقت بذاتها في خلال الاستجواب مدفوعة بقوة ضغط الانفعال المحتبس.
فإذا فرض أنه أسند إلى المتهم قتل إنسان داخل مخدعه وكان بجوار سريره قفص به ببغاء فإن المختبر يضع في القائمة كلمة طائر فالمتهم بمجرد سماعها تتنبه في ذهنه في الحال ذكرى الببغاء وإنما قد يدفعه الحرص إلى ضبط لسانه عن ذكرها لما لها من المدلول الخطير ويستعيض عنها بكلمة (غراب) فأضع له في السؤال التالي أو الذي يليه كلمة (لون) فالغالب أن يكون جوابه عليها (أخضر) لأن صورة الببغاء كانت لا تزال ماثلة في مخيلته فتصبغ الجواب المذكور بلونها وربما إذا قلت له (حصان) كان جوابه لا يزال (أخضر) مع أنه لارتباط بين الحصان واللون الأخضر، أو إذا استخدمت كلمة (غراب) (التي كان اتخذها هو في بادئ الأمر بديلاً لكلمة ببغاء في جوابه على كلمة (طائر))، فإن كلمة (ببغاء) قد تنطلق هذه المرة من بين شفتيه رغمًا عنه، وقد يكون الجواب دالاً دلالة ضمنية على حضور صورة الببغاء في ذهنه كما لو أجاب على كلمة (غراب) بقوله قفص إشارة إلى القفص الذي كان فيه الببغاء أو بكلمة (قرطم) إشارة إلى غذائها أو (سرير) إشارة إلى السرير الذي كان قفص الببغاء معلقًا بجواره، فالاحتمالات من هذا القبيل متعددة وإنما المهارة في تحديد مدلولها وتعيين اتجاه خواطر المتهم نحوها، ومن هذا يتبين مقدار ما يحتاجه مثل هذا الاختبار من العناء والدقة، خصوصًا إذا كان المطلوب اختباره متصفًا بسرعة الخاطر وحدة الذهن، ولكن مع احتمال أن يصادف الخبير مثل هذه المصاعب فإن التجربة دلت على عدم الحاجة إلى الاستعانة بتداعيات المرتبة الثانية أو الثالثة في كثير من الأحيان إذ أن المدلول المباشر والمقصود بالذات كثيرًا ما يظهر في التلبية الأولى، بمعنى أني إذا قلت للمتهم (خزانة) قد أجد التلبية أو الجواب عليها (مروحة) إشارةً إلى المروحة الكهربائية التي كانت فوق الخزانة الحديدية التي سلبت منها النقود، وإذا قلت وسادة فقد يكون الجواب عليها (مفتاح) مثلاً إشارة إلى مفتاح الخزانة الذي كان تحت وسادة المجني عليه، وإذا قلت سرقة، فقد يكون الجواب عليها (خزانة) إشارةً إلى كون السرقة حصلت من خزانة، وإذا قلت (حدوة) فقد أجد الجواب عليها (دبوس) إشارةً إلى وجود دبوس من ضمن المسروقات بشكل حدوة، وإذا قلت ملابس، فقد أجد الجواب عليها (فرن) إشارةً إلى الفرن الذي أُحرقت فيه الملابس، إخفاءً لمعالم الجريمة وهلم جرا.
فبدراسة طبيعة مثل هذه الردود المترتبة على الأسئلة المتعددة المتصلة بالحادث والموجهة بدقة وأحكام في أثناء الاختبار قد يوفق المرء إلى استخلاص وصف مسهب وصورة واضحة لمكان الحادث وكيفية ارتكابه وأسماء من عاونوا المتهم فيه وغير ذلك من التفصيلات وهو في غفلة عما يبدر منه ويشهد به قلبه ولسانه.
وفوائد الاختبار على الوجه المتقدم لا تقف عند حد الدور الأول بل قد يجني الباحث فوائد جديدة بتكرار إجراءات الاختبار مرة ثانية وثالثة بنفس القائمة، ويستحسن في بعض الأحيان تغيير مواضع الكلمات عند التكرار في الدور الثاني أو الثالث، حتى لا يتقيد ذهن المختبر بترتيب خاص، ثم يرقب المختبر مجرى الأفكار في كل دور من أدوار الاختبار بدقة ويوازن بينها جميعًا في النهاية، فالمشاهد غالبًا أن أجوبة الأسئلة العادية لا تتغير في أدوار الاختبار المختلفة، لنشوئها طبعية في العقل لا تكلف فيها وأن خطورها بالبال أولاً ادعى لرسوخها فيه وخطورها به ثانيًا وثالثًا، فإن كان الجواب على كلمة (باب) في الاختبار الأول هو كلمة (شباك) فإنها تكون كذلك في الاختبارات التالية، وإن كان الجواب على كلمة (سحاب) هو (مطر) فإنه يكون كذلك عند تكرار الاختبار، أما الكلمات المحرجة أو ذات المدلول الخطر أو التي لها مغزى خاص بالجريمة وظروفها فغالبًا يقع فيها تبديل وتغيير، لأنها لم تصدر في الاختبار الأول طبعية، بل تخللها كثير من التكلف والتصنع، فضلاً عن أن الخواطر التي تثير في النفس انفعالات شديدة وتأثرات عميقة من شأنها أن تنبه خواطر جديدة من المخيلة، أما التداعيات العادية فإنها تكون مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا يكاد يكون آليًا (ميكانيكيًا)، ولهذا لا يقع فيها تغيير أو تبديل، كما أن المتهم يكون من جهة أخرى ميالاً إلى تغيير الأجوبة الصادرة منه على الأسئلة الخطيرة في أول مرة لعدم اطمئنانه إليها خشية أن يكون في مدلولها ما يفضح أمره فيحاول استعاضتها بغيرها يحسبها خيرًا منها وأصلح له في ستر خواطره وهو لا يدري أن هذا التغيير في ذاته ينم عما يخفيه في سريرته ويكشف الغطاء عن خبث طويته.
زمن التفاعل العقلي والفائدة العملية من قياس سرعته في البحث الجنائي
إن للانفعالات النفسية عند إثارتها وقت الاختبار تأثيرًا في تأخير سرعة الخواطر بسبب الصدمة التي تحدثها الذكريات الخطيرة حال إيقاظها يظهر في الكرنسكوب بوضوح، فبقياس سرعة (التداعي) بهذا الجهاز الدقيق وتقدير زمنها يمكن كشف آثار الانفعالات النفسية حال وقوعها ورصدها بدقة، وبالتالي يمكن تعيين الكلمات التي أثارت هذه الانفعالات وتقدير أوجه ارتباطها بعقلية المتهم من جهة ثم بوقائع (الجريمة من الجهة الأخرى، وبذلك يمكن تحديد موقف المتهم بين الإدانة والبراءة في حادث معين، وإظهار الفاعل من بين عدة أشخاص وقعت عليهم الشبهة).
فرصد زمن التداعي وملاحظة ما يطرأ عليه من السرعة أو البطء قد يفوق في أهميته كل ما تقدم، فإن الكلمات التي تثير انفعالاً نفسيًا من شأنها أن تعوق النشاط العقلي بدرجة محسوسة بحي
ليس فينا من يجهل ما للمشاعر والمحسوسات من الارتباط بالأفكار والذكريات في الحياة العملية، فإنه ليس بغريب على فؤاد شاب كلف بحب فتاة أن يضطرب كلما ذكر اسمها أمامه، أو كلما وقع بصره على شيء من آثارها، كذلك إذا انقطعت صلاته بها زمانًا فإنه إذا شم مصادفة رائحة طيب كانت تتعطر به، بعث عبقه ذاكراها في نفسه مهما طال عليها العهد وتمثل طيفها لناظريه، وأحس في الحال لوعة غرامه الغابر، أو إذا سمع لحنًا كان قد ألف سماعه منها، فإن شجن اللحن قد يوقظ في نفسه شجو الغرام، مهما تعاقب على حبه السنون والأعوام، وتذكر على الفور ذلك المحبوب القديم، وارتسمت في المخيلة صورته، وبيده عوده أو قيثارته، يستنطق أوتارها وهو مستوٍ على أريكته، وشعر كأن نبرات صوته الرخيم، ترن في أذنه رنات طرب وحنين.
كذلك إذا نكب المرء بفقد عزيز له فإنه يتحاشى جهده أن يقع بصره على شيء من مخلفاته وآثاره، ويبالغ في إخفاء أمتعته وملابسه ومقتنياته وإقصائها عن حواسه، حتى لا تصطدم بمشاعره فننبه ذكرى صاحبها، فتذكى في نفسه نار الحزن والشجن، وقد نرى بعض الناس يهجرون مضاجعهم أو منازلهم، بل قد يهجرون مدينة بأسرها، فرارًا من الآلام النفسية التي تبعثها ذكرى الفراق.
والشواهد في حياتنا اليومية على ما للمشاعر من الارتباط بالأفكار كثيرة، فنقيق الضفادع قد يذكرنا بسكنى الريف، وصياح الديك في الليل البهيم قد يذكرنا بانبلاج الفجر وبزوغ النهار، وطبلة المسحر في خلال العام، قد تذكرنا بأيام الصيام، وقد يذكرنا وجه صديق باسمه، أو قد يذكرنا اسمه بمدينة أو بناحية أو بمكان، وقد تذكرنا رؤية مكان بعهد الطفولة أو بأيام الدراسة أو بمواقف الامتحان، وكذلك قد تذكرنا رائحة بطعم خاص، أو تذكرنا رائحة خاصة كالأثير أو اليودفورم بعملية جراحية أو بأيام الإقامة بإحدى المستشفيات، مع ما يتبع ذلك من استحضار الذهن صور الأطباء والممرضات وغيرها من مختلف الذكريات.
فهذه الظواهر الفكرية المختلفة قد لفتت نظر المفكرين من عهد أرسطاطاليس حتى الآن، وقد أطلق عليها علماء النفس من الإفرنج Association of Ideasومعناها حرفيًا (ترافق الأفكار)، ولكن قوانينها وأسبابها لم تدرس درسًا محكمًا منظمًا مبينًا على قواعد علمية صحيحة إلا من عهد قريب، فمن مجموعة هذه الظواهر المشتركة نشأ علم كامل منتظم، حتى لقد قام جماعة من كبار العلماء ينادون بتعليل كافة الظواهر الفكرية في جميع أدوار الحياة العقلية بأنها نتيجة فعل ظاهرة ترافق الأفكار، وقد عرفوا بأصحاب مذهب الترافق School of Associationists ، وفي مقدمة هؤلاء (لوك - Locke) (وهيوم - Hume)، و(هارتلي - Hartly)، و(جيمس مل - James Mill)، (وبين - Bain)، (وريبو - Ribot ) وغيرهم من فطاحل الفلسفة وجهابذة العلم.
فمن الروابط الفكرية ما هو ناشئ عن التلازم أو الاقتران حيث يذكرنا القرين بقرينه، ومنها ما هو ناشئ عن التشابه والتمائل حيث يذكرنا المثيل بمثيله، وهنالك من الروابط ما هو ناشئ عن مجرد التعاقب والتواتر حيث يذكرنا المتبوع بتابعه، وقد يذكرنا الجزء بالكل أو الكل بالجزء، أو قد يذكرنا اسم حيوان باسم فصيلته أو اسم نوعه أو اسم نظيره أو بقصة عن هذا الحيوان، أو بكتاب في التاريخ الطبيعي ورد ذكره فيه وغير ذلك من الاحتمالات التي لا تقف عند حد أو نهاية، غير أن علماء النفس لم يقتنعوا بمجرد تبويب الروابط العقلية وتقسيمها تقسيمًا نظريًا بل وجهوا جل عنايتهم ومعظم جهودهم إلى دراسة الأسباب التي تؤثر في تلك الروابط والعوامل التي تبعثها في النفس فتدعو إلى تنبيه خاطر دون خاطر، أو تبعث فيها فكرة دون أخرى، ووضعوا الأجهزة الدقيقة لقياس سرعة الخواطر والتفاعلات العقلية لكل نوع من أنواع الروابط الفكرية المختلفة، ففي أقل من نصف قرن نهض علم النفس التجريبي بمعامله الخاصة حاذيًا حذو علمي الكيمياء والطبيعة إذ وضعت الظواهر العقلية المختلفة تحت الفحص والاختبار بنفس الطرق المستخدمة في العلوم الطبيعية الأخرى فبتطبيق التجارب العملية أخذت دراسة (ارتباط الأفكار) تتجه في العهد الأخير اتجاهًا جديدًا، فالعالم النفساني في معمله لا يقنع بما قد يجنيه مصادفة في الحياة العملية اليومية من المشاهدات، بل يسعى خصيصًا وراء غاية مقصودة بالذات، دائبًا على العمل لاستخلاص القوانين وتأسيس القواعد والنظريات، ولذلك أمكن الوصول إلى نتائج حاسمة، حيث أصبحت لنظريات علم النفس فائدة تذكر في الحياة العلمية، فطبقت قوانين ارتباط الأفكار، أسوةً بكثير من فروع علم النفس التجريبي تطبيقًا عمليًا في التعليم والطب والهندسة والتجارة والفنون وغيرها من مرافق الحياة المختلفة، وأنه لمن المستغرب في وقتنا الحاضر عدم اتجاه أنظار رجال القانون إلى مثل هذه الأبحاث وتطبيق أساليب علم النفس الخاصة بدراسة تلك الظاهرة العجيبة واستخدامها في كشف الجرائم، فإننا في كثير من الحوادث نقف مكتوفي الأيدي ننظر مع الحسرة والألم إلى عجز الوسائل القانونية المألوفة في الوصول إلى إقرار بالحقيقة، إذ أن للإنسان مقدرة على إخفاء معلوماته وأفكاره أما بالأكاذيب وأما بالكتمان، وكلما زادت أساليب الحياة الاجتماعية ارتباكًا وتعقيدًا سهل على المجرم المحنك أن يخفي آثار جرائمه ويستر سيئاته بالمكر والخداع، ولهذا كان لا بد لنا من البحث عن وسائل أخرى تكشف لنا الحقائق وتميط عنها القناع، ونستعين بها على قراءة ما يخالج ضمير المتهم من الخواطر والأفكار، وما يكنه في صدره من الأسرار، ولا ملجأ لرجل القانون في هذا إلا طرق أبواب العلوم الأخرى، والتزود مما ادخرته من ثمرات الاكتشاف والاختراع، وظاهرة ارتباط الأفكار في مقدمة الوسائل العلمية التي نبلغ بها نحن معشر رجال القانون ذلك الغرض الأسمى الذي نسعى إليه وهو نشر لواء العدل بين الناس وصيانة أعراضهم وأرواحهم وأموالهم من عبث العابثين، والضرب على يد كل مجرم أثيم.
فأبحاث رجال العلم لم تقف عند حد استخدام هذه الظاهرة في المسائل الطبية وحل المعضلات النفسية في الأحوال المرضية بل تعدته إلى تطبيقها في غيرها من مختلف المسائل العمرانية ومنها كشف الجرائم، فوصلوا بما أجروه في ذلك من التجارب إلى نتائج جديرة بأن يعيرها رجل القانون كل عناية واهتمام، ولهذا رأيت أن أنقل في هذه الرسالة الصغيرة مجمل ما وقفت عليه من الأبحاث التي قام بها علماء الغرب في هذا الشأن، حتى إذا لم يكن لزملائي من ورائها شيء من الفائدة العملية ربما يكون لهم فيها بعض اللذة والتسلية العلمية، ولكن قبل أن أتكلم من الوجهة الفنية في تلك الظاهرة التي تشغل مقامًا خطيرًا بين مجموعة الظواهر العقلية وبيان أوجه الاستفادة منها عمليًا، أرى أن الموقف يتطلب ذكر كلمة عنها من الوجهة العلمية وفهم بعض نظرياتها وقوانينها حتى عند تطبيقها عمليًا تكون لنا بها من الخبرة والإلمام ما يكفي لتقدير مدى اعتمادنا عليها في الأبحاث الجنائية.
القسم الأول: البحث العلمي أو النظري
ظاهرة ارتباط الأفكار
Association of Ideas
أن ظاهرة (ترافق الأفكار) أو بعبارة أخرى (ارتباط الأفكار) أو (ارتباط الخواطر النفسية) كما اسميها هي تلك الظاهرة العقلية التي تمثل ما بين خواطر النفس المختلفة من روابط، بمعنى أنه إذا تنبهت في العقل فكرة أو ذكرى معينة أو إحساس خاص، أيقظ ذلك في الحال فكرة أخرى أو مجموعة أفكار وذكريات تجمعها بها روابط عقلية قديمة، فإذا كان العقل قد ألف أن يدرك شيئين مختلفين في الشكل ومتلازمين وجودًا، فإن إدراكه أحدهما أو تذكره إياه فيما بعد، من شأنه أن ينبه ذكرى الشيء الآخر بجانبه، مثال ذلك إذا كنت اعتدت أن أرى زيدًا وعمرًا متلازمين، فإذا اتفق لي رؤية أحدهما منفردًا فإني أتذكر زميله في الحال، وإذا كنت تعرفت بصديق في بلد معين في أثناء سفري أو سياحتي، فإن رؤية الصديق أو ذكراه قد تذكرني بذلك البلد، كما أن رؤية البلد أو ذكراه قد تذكرني بالصديق كذلك إذا حصل للإنسان حادث مزعج أو أليم أو حلت به فاجعة في وقت معين كوقت الغروب مثلاً، فقد ينبه الغروب عند مجيئه ذكرى الحادث أو الفاجعة، وإذا رأى الإنسان في عرض الطريق وجه شخص يشبه وجه صديق، قد يذكر في الحال ذلك الصديق، وإذا حفظ الإنسان أرقامًا بترتيب خاص أو كلمات قد لا تجمعها أي رابطة معنوية، فإن ذكرى إحداها قد يدعو إلى تذكر ما يليها من الأرقام أو الكلمات، وقد يذكرنا الأبيض بالأسود، أو البارد بالحار، أو الطويل بالقصير وهلم جرا، فبالتأمل في هذه الأمثال المختلفة يتبين أن العلة في إيقاظ فكرة بأخرى ترجع إلى وجود صلة عقلية تؤلف فيما بينهما وتجمعهما في المخيلة في آنٍ واحد، فالصلة في المثل الأول هي صلة تلازم أو اقتران، وفي المثل الثاني صلة مكان، وفي الثالث صلة زمان، وفي الرابع صلة تماثل، وفي الخامس صلة تعاقب وفي السادس صلة تضاد، وهناك صلات أخرى تجمع الأفكار المختلفة بعضها ببعض وتؤلف فيما بينها لا يتسع المجال لذكرها فضلاً عن كونها خارجة عن نطاق بحثنا.
فمما تقدم يمكننا أن نستخلص التعريف الآتي لظاهرة (ارتباط الخواطر النفسية) فهي خاصية تنبيه الأفكار أو الخواطر بعضها بعضًا بسبب سابقة ارتباطها في العقل برابطة فكرية مشتركة، أو بعبارة أوجز: هي تنبيه فكرة بأخرى تجمعهما ممارسة عقلية سابقة.
ومما يجب لفت النظر إليه أن هذه الظاهرة في مجموعها تشمل دورين من أدوار الإجراءات العقلية مختلفين ومستقلين بعضهما عن بعض، أحدهما سابق والآخر لاحق، فالسابق خاص بالرابطة التي ينشئها العقل بين فكرتين أو أكثر ويؤلف بينهما، وهذا يأتي من الخبرة والممارسة العقلية، وبعد أن يتم الارتباط بين الخواطر المختلفة ينتهي بذلك الدور الأول وهو دور التكوين، ثم تبقى الأفكار الموصولة كامنة في العقل إلى أن يأتي الدور اللاحق وهو دور العمل أو التنبيه، وذلك عندما تتنبه إحدى الفكرتين في العقل بفعل أي مؤثر من المؤثرات سواء كان ذاتيًا أو خارجيًا، فإن الفكرة التي تنبهت توقظ معها الأفكار الأخرى الكامنة السابق ارتباطها معها، والفرق بين العمليتين جوهري من حيث إن العملية الأولى إنشائية.
بخلاف الثانية فهي وظيفية أو عملية حيث تكون فيها الأفكار الكامنة في العقل قابلة للتفاعل بالمؤثرات أو المنبهات فهي ظاهرة تنبيه عقلية، فكما أن رائحة الطعام أو طعمه أو مضغه قد تنبه إفراز اللعاب أو العصارة المعدية، كذلك سماع بعض الأصوات أو لمس بعض الأشياء أو شمها أو رؤيتها أو مذاقها قد تنبه في العقل العصارة الفكرية، والعملية الأولى فيها معنى الإنشاء والتركيب كما تقدم، أما الثانية ففيها معنى التحليل، لأنها لا تولد فكرة جديدة بل من شأنها تحليل الأفكار التي في العقل قديمًا والدلالة على ما تتألف منه من الجزيئات، لهذا كانت عبارة Association of Ideas التي اصطلح عليها الأفرنج للتعبير عن هذه الظاهرة المزدوجة التركيب ليست دقيقة المعنى، لأن مدلولها قاصر على عملية الترافق أو الارتباط، وليس فيها معنى التنبيه أو التفاعل مع وضوح الفرق بين الأمرين ولذلك سأطلق على العملية الأولى (القران العقلي) [(1)] أو (الارتباط العقلي) تمييزًا لها عن عملية التنبيه نفسها التي سأدعوها (بالتفاعل العقلي) أو (تداعي الخواطر) [(2)] ولما كانت عملية التفاعل هذه تستلزم وجود خاطرين يحصل بينهما التفاعل فيؤثر أحدهما في الثاني وينبهه فسأطلق على التأثير الصادر من أولهما (التنبيه) أما الأثر المترتب عليه وهو تنبيه الخاطر الثاني وإيقاظه في الذاكرة فسأطلق عليه (رد الفعل) أو (التلبية).
ولأجل إيضاح ما تقدم أضرب لذلك مثلاً، وهو أن كلمة جمل التي تدل على ذلك الحيوان المعروف لنا بهذا الاسم، قد تبعث عند ذكرها صورته في المخيلة، غير أن معرفتنا لمدلول كلمة جمل تقتضي ممارسة العقل سابقًا سماع كلمة جمل عند رؤيته منذ عهد الطفولة، وذلك هو دور التكوين، فمن ذلك العهد ارتبطت كلمة جمل في العقل بمنظره وصورته وصوته وظلت هذه الصلة كامنة في العقل حتى إذا رأينا الجمل فيما بعد تذكرنا اسمه أو إذا سمعنا اسمه تذكرنا شكل أو صوته، وهذا هو دور التنبيه، والذي دعاني إلى اختيار التمثيل بالجمل هو أني وقت كتابة هذه السطور كنت اسمع رغاء جمل خارج المنزل، فذلك الصوت أيقظ في ذهني صورة الجمل، وصورة الجمل أيقظت اسمه، لأن كلاً منهما ارتبط في ذهني قديمًا بالآخر، فالخبرة القديمة تمثل عملية القران (أو الارتباط العقلي) أما تنبيه ذكرى الجمل في ذهني عند سماعي صوته، فتمثل ظاهرة (التفاعل العقلي) الناشئ عن صوت الجمل، والوظيفة التي قام بها ذلك الصوت من حيث تذكيري بالجمل هي (التنبيه)، والأثر المترتب عليها وهو ظهور صورة الجمل في مخيلتي أو تنبيه اسمه في ذاكرتي هو (رد الفعل) أو (التلبية).
ومما تقدم يتضح صعوبة إيجاد كلمة واحدة أو عبارة واحدة تشمل عمليتي (القران) (والتفاعل) معًا، وبما أنه جرى العرف والاصطلاح قديمًا على التعبير عنها (بارتباط الأفكار - Association of Ideas.) لتمثل كلتا الظاهرتين بصفة عامة، فلست أرى موجبًا للعدول هنا عن المألوف، وسأستخدمها كلما أردت التعميم بما أن مدلولها سيكون مفهومًا بالقرينة، وإذا اقتضى الحال التخصيص في بعض المواضع أشير إلى ذلك في سياق الكلام بما يدل عليه بإحدى الاصطلاحات الخاصة المتقدمة الذكر.
أسباب ظاهرة ارتباط الأفكار وتعليلها
لقد حار العلماء في كيفية تولد ظاهرة ارتباط الأفكار، وفي علة وجودها، فبعضهم شبهها بالجاذبية، ومن بين هؤلاء العالمان ريبو وهيوم، وبعضهم كالعلامة وليم جيمس أرجعها إلى (قانون الاعتياد العصبي - The Law of neural habit) أي أن المرجع فيها إلى العادة التي ألفها العقل عن طريق الممارسة والخبرة، وقد وضع لها القاعدة الآتية:
When two elementary brain - processes have been active together or in immediate succession, one of them, on recurring, tends to propagate its excite - ment into the other
ومعنى ذلك:
إذا قام العقل بعمليتين عقليتين في وقت واحد أو على التعاقب فإن تنبيه إحداهما في العقل ثانيًا من شأنه أن يؤدي إلى تنبيه العملية الأخرى معها.
والعادة (في نظره) من شأنها أن تجعل انتقال التيار العصبي بين مركزين عقليين سهلاً والطريق بينهما ممهدًا، وعلى ذلك فالتنبيه الذي يقع على أحد هذين المركزين فيما بعد يمتد منه إلى المركز الآخر.
وقد حاول بعض العلماء رد هذه الظاهرة إلى وظيفة عضوية أو أسباب فيزيولوجية ترجع إلى كيفية تركيب الخلايا العصبية في المخ مستندين في ذلك على ما أظهره أخيرًا علم التشريح الدقيق من وجود ألياف عصبية تصل المراكز العصبية المختلفة بعضها ببعضها الآخر سميت (ألياف الاتصال - Association fibers) وقالوا إن التيارات العصبية تنتقل من مركز إلى مركز عن طريقها، وإن الخبرة أو الممارسة من شأنها أن تمهد ذلك الطريق وتجعله أكثر صلاحية وأعظم قابلية لنقل التيارات، ومما يزيد هذا التعليل وجاهة كشف مراكز عصبية تصل بينها ألياف من هذا القبيل في المنطقة المعروفة باسم المنطقة الصامتة Silent region، وهي إحدى مناطق اللحاء أي القشرة (Cortex) (وهي الطبقة العليا السنجابية للمخ)، ومركزها المساحة التالية للالتصاق المعروف باسم التصاق رولاندو Fissure of Rolando في الجزء المقدم للفص الجبهي، وقد سميت بالصامتة لخلوها من مراكز الحس والحركة، ويعتقد بعضهم أنها موطن التفكير ووكر المواهب العقلية وفي مقدمة القائلين بهذا الرأي العلامة (فلشسج Flechsig) أول كاشف لتلك المراكز التي سماها (مراكز الاتصال - Association centres)، وكان يظن في بادئ الأمر أن هذه المنطقة ليست لها وظيفة حيوية مع أن نسبة مساحتها في مخ الإنسان أكبر منها في القرد والحيوانات الأدنى مرتبة من الإنسان، وذلك نظرًا لأن تلف جزء منها أو إصابته لا يترتب عليه أحداث أعراض ظاهرة في وظائف الحس أو الحركة، ولكن ظهر بالتجربة العلمية أن الإنسان مع ذلك يفقد مجموعة من مواهبه الفكرية الراقية ومعلوماته المكتسبة بالخبرة والمران تختلف باختلاف موضع الإصابة، فقد روي العلامة (هليبرتون - Huliburton) في كتابه علم وظائف الأعضاء صفحة 732 أنه حدث مرة انفجار في منجم فأصيب أحد العمال بكشط جزء من المنطقة الصامتة للّحاء، ولما شفي من إصابته لم تظهر عليه أي أعراض تستحق الذكر وعاد إلى عمله، ولكنه لم يلبث طويلاً حتى اتضح أنه غير أهل له، إذ تبين أن الوظائف العليا للمخ والمواهب الفكرية الراقية قد تأثرت بسبب الإصابة.
وفضلاً عن ذلك فإنه لوحظ أن بعض المعلومات الاكتسابية قد اتخذت لها مواطن أخرى مجاورة لمراكز الحس في الطبقة السنجابية بحيث إن إتلاف جزء من تلك الطبقة في المساحة المجاورة لمركز السمع (ومجلسة القسم الخلفي للتلفيف الصدغي الأعلى) يترتب عليه فقدان الإنسان معلوماته السماعية، وإتلاف الجزء المجاور لمنطقة البصر (ومجلسها الفص المؤخر للمخ) يترتب عليه فقدان المعلومات البصرية مع بقاء حاستي السمع والبصر سليمتين لأن مراكز كل منهما نفسها لم تمس، وأصحاب الرأي المتقدم يستندون فوق ذلك في تأييد حجتهم بإسناد ظاهرة ارتباط الأفكار إلى أسباب طبيعية في المخ بما يشاهد من نمو ألياف الاتصال وتقويتها وازدياد تشعب أطرافها وتعاشقها بتفرعات المراكز العصبية الأخرى المقابلة لها وذلك بالتمرين والممارسة وبما يشاهد من ضمورها وتفككها عن التفرعات المقابلة لها بالترك وهجر التمرين، كما أنه وجد أن للمران العقلي أثرًا محسوسًا في نمو نفس الخلايا التي تتألف منها المراكز العصبية، فإن إتلاف شبكية العين أو العصب البصري منذ الطفولة من شأنه أن يوقف نمو الطبقة السنجابية للفص المؤخر عند مراكز الإبصار، وأن خلاياه العصبية تبقى ضامرة ضعيفة، والألياف المتفرعة منها والتي وظيفتها نقل التيارات العصبية من مركز لآخر تكون رقيقة قليلة التشعب، وما ذلك إلا لإهمالها وحرمانها من المران على العمل، فكما أن المران الجثماني يقوي العضلات وباقي أنسجة البدن، كذلك المران العقلي يقوي المراكز العصبية الخاصة بكل نوع من أنواع الخبرة والتربية العقلية وينمي خلايا تلك المراكز ويقوي أليافها العصبية.
انظر الشكل الآتي نقلاً عن كتاب علم النفس للأستاذ (وود وورث - Woodworth R. S.) فهو يمثل خليتين عصبيتين لمركزين من مراكز الخبرة بأليافهما العصبية قبل التمرين وبعده.
والذي يهمنا من كل ما تقدم هو إثبات أن الخبرة التي يمارسها الإنسان في جميع أدوار حياته
تترك أثرًا محسوسًا في خلايا المجموع العصبي وأنسجته، وأنها تبقى فيه كامنة مستعدة للظهور كلما سنحت الفرصة بتنبيهها، ويمكن التدليل على ذلك عمليًا بالتجارب الحيوية (البيولوجية) أيضًا، وذلك أننا إذا جئنا بضفدعة وقطعنا رأسها وبعد قطع الرأس غمرنا إحدى ساقيها في محلول من الحامض الكبريتي شاهدنا أن الساق تنكمش كما لو كانت تقصد أن تنثر الحامض عن الجلد أو تتجنبه، فالتنبيه يبدأ من أطراف الأصابع متجهًا نحو مركز الحس في النخاع الشوكي، ثم ينتقل منه إلى مركز الحركة، فأعضاء الحركة المخصصة للدفاع بوساطة العصب المحرك، فإذا استخدمنا بدل الحامض المركز حامضًا مخففًا وغمرنا الساق فيه ألفيناها في بادئ الأمر لا تنكمش، وما ذلك إلا لكون التنبيه الواقع على مركز الحس في هذه المرة كان ضعيفًا بحيث لم يكفِ لإيقاظ مركز الحركة ودفع الأعضاء إلى العمل، ولكن بتكرار غمر الساق عدة مرات متواليات في السائل المخفف المذكور يبدأ أثر التنبيه في الظهور في المرة العاشرة أو الحادية عشرة، ثم يقوى تدريجيًا حتى إذا ما وصلنا إلى المرة الخامسة عشرة أو العشرين تقريبًا وجدنا الساق تتقلص تقلصًا محسوسًا وتمثلت فيها نفس الحركة التي شوهدت أولاً عند وضعها في السائل المركز في التجربة الأولى، فإذا راعينا أن السائل المخفف لم تتغير قوته طول مدة التجربة الأخيرة وأن غمر ساق الضفدعة فيه آخر دفعة لا يختلف عنه في أول دفعة، أمكننا أن ندرك أن الأثر المحسوس الذي وصلنا إليه في النهاية هو نتيجة تراكم التأثر الحسي في مركز الحس، إذ بتكرار عملية غمر الساق حوالي عشرين مرة تجمعت في هذا المركز كمية من الإحساس في الدفعة الأخيرة تزيد نحو عشرين ضعفًا عليها في الدفعة الأولى، وبذلك أصبحت فيه كمية الإحساس كافية لتنبيه مركز الحركة ودفع العضلات إلى العمل.
هذه الخبرة الحسية المتكررة لم تضع سدى بل ظلت محفوظة في المركز العصبي المخصص لها فترة من الزمن، وبناءً على هذا يمكننا أن نعتبر أن الخلايا العصبية للنخاع الشوكي للضفدعة لها نوع من الذاكرة، ولا شك في أن هذه الخاصية تكون في المراكز العصبية لمخ الإنسان أكثر وضوحًا وأرقى درجة منها في نخاع الضفدعة المفصومة الرأس، فالمراكز العصبية تبقى متأثرة بهذه الخبرة طويلاً، ولكن لا يؤخذ من هذا أن يبقى التأثر محسوسًا باستمرار بل ينقطع الشعور به بانقطاع المنبه أو المؤثر، إذا لولا ذلك لأصبحت حياة المخلوق وبالأخص الإنسان عبئًا ثقيلاً لا يطاق، فمن منا يطيق أن يستمر سامعًا ورائيًا كل ما اتفق له سماعه من الأصوات ورآه من المناظر بدون انقطاع ؟
كذلك إذا حل بالإنسان حادث محزن فإنه يترتب على عدم انقطاع الشعور به ملازمة تأثيره السيئ له طول الحياة.
فالخبرة الماضية - وإن كان الإحساس بها يكون معدومًا في معظم الأحيان - موجودة بالفعل ولكنها كامنة في باطن العقل راكدة في قاعة، وما ذلك إلا لنفع الإنسان وخيره أيضًا، لهذا كانت مقدرة الكائنات الحية على الاحتفاظ بمعلوماتها الماضية بنسبة رقيها، ففي الأحياء الأولية أو الدنيئة المرتبة يشاهد أن جميع الأفعال تكون خاضعة لتنبيه المؤثرات الخارجية مباشرةً سواء كانت طبيعية أو كيميائية، أما الأحياء الراقية فإنها لا تستطيع أن تعيش مقتصرة على ما تحدثه بها المنبهات الخارجية من الأثر الوقتي والذي يزول بزوال المؤثر، بل هي في أشد الحاجة إلى الاحتفاظ بما مر بها من الخبرات والتجارب حتى يمكنها بذلك أن تربط ما بين الماضي والحاضر وتهيء لنفسها العدة للمستقبل، وفي حياة الإنسان ترى أن مشاعره الوقتية لا تكون إلا جزءًا يسيرًا من مجموعة حياته العقلية وأفكاره وأن جل اعتماده على ما خبره من الحوادث وكابده في ماضي حياته أو حصل عليه من المعلومات على ممر الأيام والأعوام.
تقسيم ارتباط الأفكار من حيث التفاعل العقلي أو التداعي
عرفنا مما سلف أن التفاعل العقلي أو ظاهرة التداعي تستدعي وجود فكرتين أو خاطرين أحدهما يقوم بوظيفة التنبيه والثاني يتأثر بنداء الأول فيتنبه، واصطلحنا على تسمية العملية الأولى (بالتنبيه) وتسمية الأثر المترتب عليها (برد الفعل) أو (التنبيه)، فالتلبية قد تكون صورة حسية وقد تكون مجرد معنى أو لفظ، ولقد ذهب علماء النفس إلى تقسيم ظاهرة التداعي تبعًا لنوع التلبية إلى تداعي حسي وتداعي معنوي لفظي، ولما كان التداعي اللفظي هو الذي يعنينا في بحثنا الحالي أكثر من سواه فسأجتزئ بذكر كلمة مجملة عن القسمين الأولين خشية أن يعد التوسع فيهما خروجًا عن الموضوع.
فالتداعي الحسي: هو الذي تكون التلبية فيه إيقاظ صورة حسية في الذهن، بمعنى أن التنبيه في هذه الحالة يبعث ذكرى إحساس قديم، كما لو وقع بصري على شراب ذقته من قبل فتذكرت طعمه أو رائحته، أو شممت رائحة الموز فتذكرت طعمه ولونه، أو سمعت تغريد طائر فتذكرت لونه أو صورته، أو رأيت القيثارة فتصورت صوتها، أو قرأت اسم شخص في صحيفة فتخيلت شكله.
والتداعي المعنوي: هو الذي تكون التلبية فيه غير حسية بل معنوية بحتة بمعنى أنها ليست استعادة صورة من صور الحس المختلفة، مثال ذلك إذا وقع بصري على خطاب جاءني من صديق فتذكرت أمرًا كلفني به، أو إذا رأيت كتابًا فتذكرت أن أعيده لصاحبه، أو سمعت بمرض شخص فتذكرت النتائج التي تترتب على وفاته، وهذا لا يمنع أن يصحب هذا النوع من أنواع التداعي في كثير من الأحيان صورة حسية، كما لو كنت أتخيل وجه صديقي في المثل الأول عند ما يقع بصري على خطابه أو تحضر في ذهني صورة من أعارني الكتاب في المثل الثاني أو صورة المريض في المثل الثالث.
تداعي الألفاظ
Word Association
أما التداعي اللفظي: فالمقصود به أن لفظًا ينبه في الذهن لفظًا آخر بمعنى أني أذكر للشخص كلمة (رجل) مثلاً واطلب منه أن يجيبني بأول كلمة تخطر بباله بعد سماعه هذه الكلمة فيجيبني بقوله امرأة (مثلاً) فالتنبيه هنا هو لفظ (رجل)، والتلبية هي لفظ (امرأة)، كذلك أن قلت له (باب) فقد يكون جوابه (شباك)، أو قلت له (كرسي) فربما يكون الجواب (مكتب) وكثيرًا ما يثير التنبيه اللفظي جوابًا أو تلبية لفظية بطريقة آلية بحتة من غير أن يكون للفكر أو التأمل أقل دخل فيها.
وينقسم التداعي اللفظي قسمين، تداعيًا مقيدًا، وتداعيًا مطلقًا، فالتداعي المقيد هو الذي يستدعي تلبية خاصة أو جوبًا معينًا تلقاء تنبيه معين، كما لو وجهت لشخص سؤالاً ليس له إلا جواب واحد وطلبت منه الإجابة عليه، بأن أذكر له اسم مملكة ليجيبني باسم عاصمتها، أو كلمة أجنبية طالبًا منه تعريبها، أو طلب منه حاصل ضرب عدادين معينين، أو أعرض عليه صورة حيوان لكي يذكر اسمه بمجرد النظر إليه وهكذا، وأما التداعي المطلق فهو الذي تترك فيه الحرية للشخص المختبر ليجيب بأول كلمة تخطر بباله أيًا كانت بمجرد سماعه كلمة التنبيه، من غير تقييده بجواب خاص فأذكر له مثلاً كلمة (شجرة)، وأطلب منه أن يجيبني بأول كلمة ترد على ذهنه بعد سماعه إياها بأقصى ما يمكنه من السرعة، فقد يكون جوابه مثلاً (نخلة) وقد يكون (نبات) أو (ثمر) أو (فرع) أو (بستان) أو (أخضر) أو (إتلاف) وهلم جرا.
والفرق بين التداعي المقيد والتداعي المطلق أن الأول موضوعي في نوعه بمعنى أن التلبية فيه تابعة لموضوع التنبيه ومرتبطة به, فهي جواب مقيد بموضوع السؤال، أما التداعي المطلق فهو شخصي لأن التلبية فيه تتبع أفكار الشخص وحالته النفسية في اللحظة التي صدر فيها التنبيه، والنوع الأول يرمي البحث فيه غالبًا إلى تقدير سرعة الخاطر وقوة استدعاء المحفوظات ومعرفة مقدار رسوخها في الذهن.
أما النوع الثاني فإنه ربما لا يدل على شيء متعلق بملكة الحفظ وإنما يدل على ما طبع قديمًا في الذهن ولو عرضًا، كما أنه يدل على اتجاه مجرى الأفكار ويساعد الباحث على اقتفاء أثر العقل في جولاته الباطنية، وقد يدل على عقلية الشخص ووجهة نظره الخاصة تلقاء تنبيه معين، مثال ذلك إذا قلت للشخص كلمة (كلب) مثلاً فإن كان جوابه (قط) أدركت أنها نبهت في ذهنه فكرة النظير أو القرين، وإن كان جوابه (حيوان) دلتني هذه التلبية على تسلط فكرة التعميم، وأن قال (أرمنتي) دل ذلك على اتجاه فكره نحو (التخصيص)، وأن قال (أمانة) دلت على اهتمامه بهذه الصفة من صفات الكلب، فإذا كانت أجوبة الشخص في مجموعها يغلب عليها التعميم دل ذلك على عقلية تختلف عنها فيما لو كانت الأجوبة يغلب عليها التخصيص أو تغلب عليها فكرة القرين والنظير أو الصفة.
وقد لوحظ بالتجربة أن متوسط سرعة الخواطر في التداعي المقيد تختلف عنها في التداعي المطلق، فهي في الأول أكثر سرعة منها في الثاني بمعنى أنه إذا كان متوسط سرعة الخاطر لشخص معين في التداعي المقيد نصف ثانية فقد يكون متوسط سرعة خاطره في التداعي المطلق ثلاثة أرباع الثانية أو ثانية كاملة، ولعل ذلك راجع إلى أن التكرار والتمرين اللذين يتطلبهما الحفظ من شأنهما تقوية الروابط العقلية وتسهيل التداعي، كما أن للانفعالات والتأثرات النفسية أثرًا خاصًا في تأخير سرعة التداعي على العموم والتداعي المطلق على الخصوص، وقد وضعت أجهزة دقيقة لقياس هذه السرعة بها يمكن رصد الأفكار والخواطر التي تصحبها انفعالات وبذلك يمكن تمييزها من الخواطر العادية أما الطريقة العملية لذلك فسيأتي الكلام عليها في القسم الفني.
العوامل التي تؤثر في متانة الروابط الفكرية
إننا إذا جهزنا عشر بطاقات لكل واحدة منها لون خاص ثم جهزنا عشر بطاقات أخرى صغيرة مكتوب على كل منها عدد معين مؤلف من رقمين إلا بطاقة واحدة كتب عليها عدد ثلاثي الأرقام ثم استعرضنا البطاقات الملونة واحدة بعد الأخرى بعد أن أرفقنا بكل منهما عددًا من الأعداد السالفة الذكر وبعد الفراغ من استعراض عشر البطاقات على هذا النحو كررنا استعراض بطاقة منها مرة ثانية وبعد ذلك فصلنا بطاقات الأعداد عن بطاقات الألوان بعد التأشير على كل من الأولى بما يدل على اللون الذي كان مرفقًا بها وأخذنا بعد ذلك نستعرض البطاقات الملونة منفصلاً عنها أعدادها وعند استعراض كل لون دون في مذكرة خاصة العدد الذي ارتبط في ذهننا به فإننا نشاهد ثلاثة أمور جديرة بالملاحظة وهي أن العدد الذي استعرضناه في النهاية والعدد الذي كررنا عرضه والعدد المؤلف من ثلاثة أرقام هي أقرب الأعداد ارتباطًا في الذهن مع ألوانها من باقي الأعداد الأخرى.
ما الذي يمكننا استنباطه من هذه الملاحظات ؟ إننا مع التأمل يمكننا أن نتبين وجود ثلاثة عوامل مختلفة من شأنها تقوية الروابط الفكرية وهي:
1 - حداثة العهد.
2 - التكرار.
3 - الغرابة والاهتمام.
فالخبرة الحديثة العهد أقرب إلى الذهن من القديمة، والمتكررة أقرب إليه من غير المتكررة، وما فيها غرابة أو شذوذ من نوع ما أقرب إليه من العادية.
فإذا رأيت زيدًا سائرًا مع عمرو من أسبوع مضى ثم قابلته بالأمس سائرًا مع خالد، ثم قابلت زيدًا منفردًا في صباح اليوم، فإن رؤية زيد تجعل ذكرى خالد في الظروف العادية أقرب إلى ذهني من ذكرى عمرو، وكذا لو كنت قابلت زيدًا مع عمرو مرة واحدة وقابلته مع خالد أكثر من مرة، وإذا اتفق لي أن رأيت زيدًا يطعن بكرًا بسكين فإني إذا قابلت أحدهما فيها بعد منفردًا تذكرت الآخر ولو بعد حين نظرًا لما أثاره هذا الحادث في نفسي من الاهتمام، ومن قبيل ذلك إذا صدمتني عربة أو سيارة وأتيح لي أن أقرأ رقمها حال فرار السائق بها، فإني قل أن أنسى هذا الرقم لما له في نظري من الأهمية التي نشأت عن الحادث الذي ارتبط به في ذهني، مع أني كثيرًا ما أقرأ أرقام العربات والسيارات حال مرورها بجانبي في الطريق ثم أنساها على الفور لأنها لاتهمني كذلك لو رأى الإنسان لأول مرة في حياته تنفيذ حكم الإعدام في شخص شنقًا أو رميًا بالرصاص فإنه عند ذكر كلمة إعدام أو قراءتها تتنبه في ذهنه صورة ذلك الشخص على الفور ويتمثل منظره في مخيلته وهو مدلى والحبل في عنقه أو وهو مجدل ورصاص البنادق قد مزق صدره، وأنا نفسي لا زلت حتى الآن كلما قرأت أو سمعت كلمة إعدام أذكر المتهمين الذين أعدموا في حادث السردار ولو أني لم أحضر تنفيذ الحكم فيهم وإنما نظرًا لأهمية الحادث ولأني قرأت خبر إعدامهم في الصحف وأنا في حالة تأثر وانفعال فقد ربط هذا الحادث في ذهني بكلمة إعدام ربطًا محكمًا.
فالانفعال النفسي عامل من أقوى العوامل التي تزيد الروابط العقلية متانة وليس فينا من يجهل ما للحوادث المريعة من الأثر الشديد في نفس أثرًا قد يدوم زمنًا طويلاً أكثر مما يتصوره الإنسان لأول وهلة، فإنه قد يصيب المرء في عهد طفولته حادث يملأ نفسه الصغيرة رعبًا ويبقى الانفعال مكتومًا فيها، ثم يظهر بعد عشرات الأعوام في شكل اضطرابات نفسية عندما تتنبه الذكريات القديمة بمؤثرات خارجية قد يتعرض لها الإنسان في مستقبل الحياة.
زمن التداعي أو قياس سرعة ورود الخواطر
إن سرعة الخواطر تختلف باختلاف الأشخاص، كما تختلف باختلاف الظروف والأحوال النفسية لدى الشخص الواحد، وتختلف كذلك باختلاف أنواع الروابط العقلية والموضوعات التي يجرى فيها الاختبار، والمراد بقياس سرعة الخواطر هو معرفة ما يلزم من الزمن لاستحضار الخواطر وإيقاظها في الذهن بأقصى ما يمكن من السرعة، وذلك يتم بقياس الزمن الذي يمضي بين التنبيه وورود التلبية في الذهن.
ولما كان لقياس سرعة الخواطر أهمية كبرى في الأبحاث النفسية فقد وضع لهذه الغاية جهاز كهربائي دقيق أطلق عليه اسم (الكرونسكوب - Chronoscope) أي كاشف الزمن أو مقدر الزمن وهو آلة تشبه الساعة ذات عقربين كل منهما يلف حول دائرة مقسمة إلى مائة درجة، وأحدهما يدور بسرعة عشر دورات في الثانية، ووظيفة العقرب الآخر تسجيل عدد دورات العقرب الأول في كل ثانية، وهذه الآلة تدار بالكهرباء، وتستمد ما تحتاج إليه من التيار من بطارية كهربائية ويتفرع من الآلة سلكان في طرف كل منهما جهاز صغير، أحدهما يضعه المختبر في فمه ومن شأنه أن يصل التيار القادم من البطارية بالآلة بمجرد تحريك الشفتين للكلام والثاني يضعه الشخص المختبرَ في فمه ومن شأنه أن يقطع التيار، فبمجرد أن يلفظ المختبر كلمة التنبيه يتصل التيار الكهربائي بالكرونسكوب فيدور العقرب، وبمجرد أن يلفظ المختبر كلمة التلبية ينقطع التيار فيقف العقرب، وبذلك يمكن قراءة الزمن الذي سجلته الآلة بين التنبيه والتلبية بجزء من ألف من الثانية، غير أن هذا الزمن يشمل بجانب الزمن اللازم لعملية التداعي أيضًا الزمن اللازم لسماع كلمة التنبيه وفهمها وتنبيه مركز الكلام فالنطق وغير ذلك من العمليات العقلية الجزئية، ولكن هذه من الميسور تقدير زمنها بصفة مستقلة عن زمن التداعي وذلك بأن يقاس الزمن اللازم لمجرد تكرار الكلمة ذاتها بدون تسخير العقل في إجراء أي تداعٍ، ثم يطرح الزمن المذكور من زمن التجربة في حالة إجراء التداعي والناتج هو الزمن الذي استغرقته عملية التداعي مجردة عن باقي الإجراءات العقلية الأخرى، فإذا وجدت مثلاً أن التداعي بين رأس وقدم استغرق ثانية، و297 جزءًا من ألف جزء من الثانية في حين أن مجرد تكرار كلمة رأس استغرق 456 جزءًا من ألف من الثانية، فإن الفرق الناتج بينهما وهو 841 من ألف من الثانية هو الزمن اللازم لاستحضار كلمة قدم في الذهن.
وبتكرار هذه التجربة مع الشخص في عدة كلمات يمكن استخلاص متوسط سرعة ورود خواطره أو زمن التداعي الخاص به، وقد لوحظ أن هناك مستوى معينًا للعقلية الطبيعية للشخص بحث إذا تجاوزه سرعة أو بطئًا دل على حالة غير عادية أو غير طبيعية في العقل كوجود اضطراب عقلي أو انفعال نفساني.
ولقد درست الظواهر العقلية عن طريق قياس سرعة ورود الخواطر درسًا متقنًا في العهد الأخير، فأمكن فحص القوى العقلية البشرية بتعمق بمثل هذا الجهاز الدقيق وحساب الفوارق الزمنية ورصدها في كل خاطر من الخواطر المتباينة، وقد كشف الاختبار أن أقل خاطر يمر بالذهن يستغرق زمنًا يمكن رصده بمراعاة حساب مثل هذه الفوارق الطفيفة، والتي لم يكن في وسع الإنسان ملاحظتها من غير الاستعانة بمقياس زمني دقيق كهذا، وتوصل علماء النفسي أخيرًا إلى نتائج باهرة بحيث أمكن تطبيق قواعد ارتباط الأفكار في الحياة العلمية واستخدامها في التعليم والطب والفنون والصنائع والتجارة والقانون، ولما كان هذا الأخير هو الذي يهمنا أمره في بحثنا الحالي دون سواه فسيكون الكلام قاصرًا عليه من الوجهة العملية.
[(1)] القران في اللغة هو الجمع بين شيئين فيقال قرن الشيء بالشيء أي وصله به، وقرنت الأساري في الحبال أي ربطت بالحبال، والقرن الحبل إذا قرن به بعيران وهو مأخوذ من قولهم قرن الشخص للسائل إذا جمع له بعيرين في قرن واحد أي حبل واحد.
[(2)] إن كلمة التداعي ليس معناها هنا الأيلولة إلى السقوط بل المقصود بها أن الخواطر تدعو بعضها بعضًا ففيها معنى التفاعل وقد سبق استعمالها فيما ما وضع من الكتب العربية في علم النفس أخيرًا حيث عبر فيها عن ظاهرة ارتباط الأفكار (بتداعي المعاني) ولكني فضلت هنا تداعي الخواطر بدلا عن تداعي المعاني حتى لا يقع ليس بين التداعي المعنوي والتداعي الحسبي والتداعي اللفظي كما سيأتي الكلام عليه.
القسم الثاني: البحث الفني أو العملي
عملنا مما مر بنا عند الكلام على ظاهرة ارتباط الأفكار من الوجهة النظرية أنه توجد ثلاثة عوامل رئيسية تؤثر في متانة الروابط الفكرية، وهي حداثة العهد، والتكرار والأهمية، ويلحق بالأهمية الغرابة والشذوذ والروعة والانفعالات النفسية وبالجملة كل ما يثير في النفس أي اهتمام، فإذا ارتكب شخص جريمة خطيرة كجريمة قتل مثلاً، فإن هذا الحادث يترك في نفسه أثرًا شديدًا يربط الوقائع في ذهنه ربطًا محكمًا ربما يدوم زمنًا طويلاً، وبالأخص إذا كان المتهم مجرمًا بالمصادفة أو حديث العهد بالإجرام لم تجمد عواطفه ولم تنضب موارد تأثراته وانفعالاته، فإن عقله يُصبح شديد التنبيه بكل ماله علاقة بجرمه، عظيم القابلية للتأثر بذكرياته، وتضحى نفسيته ميدانًا صالحًا لأن يباشر فيه الباحث تجاربه واختباراته، وإذا كان الجرم قريب الوقوع ولم يمضِ عليه زمن تكون قد هدأت فيه ثورة نفس مقترفة اجتمع بذلك لدى الخبير عاملان قويان يعملان على تقوية الخواطر التي ارتبطت في ذهن المتهم بوقائع الجريمة ويساعدان على تشخيص نفسيته تشخيصًا فنيًا دقيقًا، وهما عاملا الخطورة وحداثة العهد.
فإذا فرض وكان غرضنا اختبار شخص متهم بجريمة قتل مثلاً لنعرف أهو الذي ارتكبها أم لا وكان المتهم منكرًا معرفته القتيل إنكارًا باتًا ويدعي أنه لم يره ولم يدخل منزله في حياته قط ولا يعرف عن وقائع الحادث وظروفه شيئًا، فإننا إذا عرضنا عليه أمر اختباره بالتداعي اللفظي The word association test فهو لا يمانع عادةً في إجراء هذا الاختبار لأنه يبدو له تافهًا لأول وهلة، وسواء كان المتهم بريئًا أو مدينًا فلا ينتظر منه الرفض، لأنه إن كان بريئًا فهو لا يرفض لأنه لا يخشى ظهور الحقيقة بل بالعكس يهمه إظهارها، وإن كان مدينًا فهو لا يرفض أيضًا لأن الرفض مجلبة للشبهة وسوء الظن، وهو ما لا يرضاه لنفسه، هذا فضلاً عما يعتقده من أن في مقدوره أن يصون لسانه عن ذكر أي لفظ له علاقة بالحادث أو في معناه ما ينم عن أسراره معتمدًا على أن الاختبار لا يقتضي منه شيئًا أكثر من ذكر أول كلمة تخطر بباله جوابًا لما يُلقى عليه من الكلمات.
فعلى هذا الاعتبار يقبل الشخص أن يسلم نفسه للاختبار طائعًا مختارًا مطمئنًا، ولكن سرعان ما تفسد التجربة عليه ظنه وتهدم صرح طمأنينته وعقيدته، وذلك عند ما يشهد أفكاره وخواطره المكتومة تتدفق نحو مخيلته ثم تدفع بعضها بعضًا إلى الخروج من فمه رغم أنفه.
أما أدوات الاختبار فتنحصر في (كرونسكوب) وقائمة مجهزة من عدد وافر من الكلمات المختلفة (وجرت العادة أن تكون مائة كلمة) ينتخب من بينها ثلاثون أو أربعون لها صلة بالجريمة ووقائعها وظروفها ومحتوياتها والإجراءات والتدابير التي اتخذت لتنفيذها والأشخاص الذين اشتركوا فيها أو كانوا حاضرين وقت وقوعها والبواعث التي أدت إلى ارتكابها وهلم جرا.
أما طريقة الاختبار فهي أن يطلب من المختبر أن يلفظ أول كلمة ترد على ذهنه بمجرد سماعه كل كلمة تُلقى عليه من الكلمات الواردة في القائمة على أن يكون جوابه عليها بأقصى ما يمكنه من السرعة ثم ترصد الأجوبة في مذكرة كما ترصد أزمنتها بدقة بوساطة الكرونسكوب.
وإعداد القائمة المئوية هو أول عمل تجب العناية به عناية خاصة لأن اختيار الكلمات التي لها ارتباط بالحادث وكيفية توزيعها بين باقي الكلمات الواردة بالقائمة مما يتطلب مهارة فنية وخبرة واسعة كما أن كشف التأثرات النفسية وتحديد مدلولها يحتاج لكثير من دقة الفكر وقوة الملاحظة إذ قد يتفق أن يكون للمتهم من المقدرة وقوة ضبط النفس ما يكفي لعدم إظهار أفكاره وخواطره الحقيقية بطريقة مباشرة على أنه مع ذلك يمكن للباحث المدقق كشفها بطريقة استدلالية أو غير مباشرة لأنه بسبب وقوع مثل هذه الخواطر تحت ضغط الإدارة تبقى مائلة في المخيلة وكثيرًا ما يظهر أثرها في الجواب التالي أو الذي يليه وربما انطلقت بذاتها في خلال الاستجواب مدفوعة بقوة ضغط الانفعال المحتبس.
فإذا فرض أنه أسند إلى المتهم قتل إنسان داخل مخدعه وكان بجوار سريره قفص به ببغاء فإن المختبر يضع في القائمة كلمة طائر فالمتهم بمجرد سماعها تتنبه في ذهنه في الحال ذكرى الببغاء وإنما قد يدفعه الحرص إلى ضبط لسانه عن ذكرها لما لها من المدلول الخطير ويستعيض عنها بكلمة (غراب) فأضع له في السؤال التالي أو الذي يليه كلمة (لون) فالغالب أن يكون جوابه عليها (أخضر) لأن صورة الببغاء كانت لا تزال ماثلة في مخيلته فتصبغ الجواب المذكور بلونها وربما إذا قلت له (حصان) كان جوابه لا يزال (أخضر) مع أنه لارتباط بين الحصان واللون الأخضر، أو إذا استخدمت كلمة (غراب) (التي كان اتخذها هو في بادئ الأمر بديلاً لكلمة ببغاء في جوابه على كلمة (طائر))، فإن كلمة (ببغاء) قد تنطلق هذه المرة من بين شفتيه رغمًا عنه، وقد يكون الجواب دالاً دلالة ضمنية على حضور صورة الببغاء في ذهنه كما لو أجاب على كلمة (غراب) بقوله قفص إشارة إلى القفص الذي كان فيه الببغاء أو بكلمة (قرطم) إشارة إلى غذائها أو (سرير) إشارة إلى السرير الذي كان قفص الببغاء معلقًا بجواره، فالاحتمالات من هذا القبيل متعددة وإنما المهارة في تحديد مدلولها وتعيين اتجاه خواطر المتهم نحوها، ومن هذا يتبين مقدار ما يحتاجه مثل هذا الاختبار من العناء والدقة، خصوصًا إذا كان المطلوب اختباره متصفًا بسرعة الخاطر وحدة الذهن، ولكن مع احتمال أن يصادف الخبير مثل هذه المصاعب فإن التجربة دلت على عدم الحاجة إلى الاستعانة بتداعيات المرتبة الثانية أو الثالثة في كثير من الأحيان إذ أن المدلول المباشر والمقصود بالذات كثيرًا ما يظهر في التلبية الأولى، بمعنى أني إذا قلت للمتهم (خزانة) قد أجد التلبية أو الجواب عليها (مروحة) إشارةً إلى المروحة الكهربائية التي كانت فوق الخزانة الحديدية التي سلبت منها النقود، وإذا قلت وسادة فقد يكون الجواب عليها (مفتاح) مثلاً إشارة إلى مفتاح الخزانة الذي كان تحت وسادة المجني عليه، وإذا قلت سرقة، فقد يكون الجواب عليها (خزانة) إشارةً إلى كون السرقة حصلت من خزانة، وإذا قلت (حدوة) فقد أجد الجواب عليها (دبوس) إشارةً إلى وجود دبوس من ضمن المسروقات بشكل حدوة، وإذا قلت ملابس، فقد أجد الجواب عليها (فرن) إشارةً إلى الفرن الذي أُحرقت فيه الملابس، إخفاءً لمعالم الجريمة وهلم جرا.
فبدراسة طبيعة مثل هذه الردود المترتبة على الأسئلة المتعددة المتصلة بالحادث والموجهة بدقة وأحكام في أثناء الاختبار قد يوفق المرء إلى استخلاص وصف مسهب وصورة واضحة لمكان الحادث وكيفية ارتكابه وأسماء من عاونوا المتهم فيه وغير ذلك من التفصيلات وهو في غفلة عما يبدر منه ويشهد به قلبه ولسانه.
وفوائد الاختبار على الوجه المتقدم لا تقف عند حد الدور الأول بل قد يجني الباحث فوائد جديدة بتكرار إجراءات الاختبار مرة ثانية وثالثة بنفس القائمة، ويستحسن في بعض الأحيان تغيير مواضع الكلمات عند التكرار في الدور الثاني أو الثالث، حتى لا يتقيد ذهن المختبر بترتيب خاص، ثم يرقب المختبر مجرى الأفكار في كل دور من أدوار الاختبار بدقة ويوازن بينها جميعًا في النهاية، فالمشاهد غالبًا أن أجوبة الأسئلة العادية لا تتغير في أدوار الاختبار المختلفة، لنشوئها طبعية في العقل لا تكلف فيها وأن خطورها بالبال أولاً ادعى لرسوخها فيه وخطورها به ثانيًا وثالثًا، فإن كان الجواب على كلمة (باب) في الاختبار الأول هو كلمة (شباك) فإنها تكون كذلك في الاختبارات التالية، وإن كان الجواب على كلمة (سحاب) هو (مطر) فإنه يكون كذلك عند تكرار الاختبار، أما الكلمات المحرجة أو ذات المدلول الخطر أو التي لها مغزى خاص بالجريمة وظروفها فغالبًا يقع فيها تبديل وتغيير، لأنها لم تصدر في الاختبار الأول طبعية، بل تخللها كثير من التكلف والتصنع، فضلاً عن أن الخواطر التي تثير في النفس انفعالات شديدة وتأثرات عميقة من شأنها أن تنبه خواطر جديدة من المخيلة، أما التداعيات العادية فإنها تكون مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا يكاد يكون آليًا (ميكانيكيًا)، ولهذا لا يقع فيها تغيير أو تبديل، كما أن المتهم يكون من جهة أخرى ميالاً إلى تغيير الأجوبة الصادرة منه على الأسئلة الخطيرة في أول مرة لعدم اطمئنانه إليها خشية أن يكون في مدلولها ما يفضح أمره فيحاول استعاضتها بغيرها يحسبها خيرًا منها وأصلح له في ستر خواطره وهو لا يدري أن هذا التغيير في ذاته ينم عما يخفيه في سريرته ويكشف الغطاء عن خبث طويته.
زمن التفاعل العقلي والفائدة العملية من قياس سرعته في البحث الجنائي
إن للانفعالات النفسية عند إثارتها وقت الاختبار تأثيرًا في تأخير سرعة الخواطر بسبب الصدمة التي تحدثها الذكريات الخطيرة حال إيقاظها يظهر في الكرنسكوب بوضوح، فبقياس سرعة (التداعي) بهذا الجهاز الدقيق وتقدير زمنها يمكن كشف آثار الانفعالات النفسية حال وقوعها ورصدها بدقة، وبالتالي يمكن تعيين الكلمات التي أثارت هذه الانفعالات وتقدير أوجه ارتباطها بعقلية المتهم من جهة ثم بوقائع (الجريمة من الجهة الأخرى، وبذلك يمكن تحديد موقف المتهم بين الإدانة والبراءة في حادث معين، وإظهار الفاعل من بين عدة أشخاص وقعت عليهم الشبهة).
فرصد زمن التداعي وملاحظة ما يطرأ عليه من السرعة أو البطء قد يفوق في أهميته كل ما تقدم، فإن الكلمات التي تثير انفعالاً نفسيًا من شأنها أن تعوق النشاط العقلي بدرجة محسوسة بحي