1 - الحق والدعوى:
الحق هو كل مصلحة مادية أو أدبية يحميها القانون - ومهمة القانون هي تنظيم حقوق الأفراد وواجباتهم وكفالة احترام المجموع لهذه الحقوق بحيث تصبح قائمة غير معتدي عليها - وطبيعة الحياة الاجتماعية تقتضي اشتباك المصالح وتعارض حقوق الأفراد والتنازع عليها فيجب أن يظل إشراف القانون قائمًا في هذا الخصوص ليحسم ما يجد من خلافات ويفض ما يثور من منازعات - وهذا الإشراف المباشر على اشتباك الحقوق يعهد به القانون إلى سلطة تسهر عليه وتتوفر له – وهي سلطة القضاء.
وطبيعي وقد وجدت هذه السلطة أن يخول القانون الفرد حق الالتجاء إليها لحماية حقوقه وصونها من العدوان، وإذا كان الأفراد بحسب الأصل مطالبين بأنفسهم باحترام هذه الحقوق فإن عدم مراعاتهم لذلك يترتب عليه أن يكون لصاحب الحق المعتدى عليه إلزام المعتدي باحترام حقه – وهذا الإلزام لا بد من وسيلة قانونية لتحقيقه - وهذه الوسيلة هي الدعوى.
وعلى هذا الوجه تكون الدعوى هي الوسيلة القانونية التي يتوجه بها الشخص للقضاء للحصول على تقرير حق له أو حمايته [(1)] وكان التعريف التقليدي للدعوى أنها حق الشخص في المطالبة أمام القضاء بكل ما له أو ما يكون واجب الأداء له، وهذا هو تعريف بوتييه – وقريب منه تعريف الفقه الإيطالي إذ يرى جيوفندا أن الدعوى حق تابع للحق الأصلي الذاتي - فالقضاء وهو السلطة القائمة على حماية الحقوق الذاتية لا يمكن أن يتدخل من تلقاء نفسه لحماية حق اعتدى عليه أو أنكر وجوده بل خول الفرد صاحب الحق المعتدى عليه حق دعوة هذه السلطة إلي التدخل لحماية حقه - وهذا الحق المخول له هو الدعوى.
وقد تكشف اليوم عدم صحة النظر إلى الدعوى بوصفها حق متميز عن الحق الأصلي الذي تقررت لحمايته إذ أنها عنصر من عناصر الحق هو الحماية القانونية الواجبة باعتبارها مصلحة مادية أو أدبية
والدعوى كوسيلة لحماية الحق قد تستعمل بطريق المطالبة أصلاً وقد تستعمل بطريق الدفع الذي يرد به على الطلب فكل ما يقال عن الدعوى يصدق على الدفوع التي يقدمها الخصم للمدافعة بها عن حقه [(2)].
2 - حق الالتجاء إلى القضاء:
يقول الفقيه أهرنج (أن السلام هو الهدف الذي يبتغيه القانون، والمنازعة هي وسيلة الوصول إليه).
(Le paix est le but que poursuit le droit, la lutte est le moyen de l’atteindre.)
وأن كل فرد قد جبل على السعي للمطالبة بحقه وذلك في صالح المجموع.
وحق الالتجاء إلى القضاء حق تنظمه قواعد القانون العام وتحميه نصوص الدستور فيما تحمى وتنظم من حقوق الأفراد - ولهذا فهناك فارق بين الدعوى وبين حق الالتجاء إلى القضاء لأن تنازل رافع الدعوى عنها تنازل صحيح قانونًا لأنه نزول عن حق من الحقوق الخاصة أما تنازله عن حقه في الالتجاء إلى القضاء عمومًا فهو تنازل غير صحيح لأنه تنازل عن حق من الحقوق العامة – مثل تنازل الشخص عن حق من حقوقه السياسية وهو أمر غير جائز لمخالفته للنظام العام – فيقع باطلاً اتفاق رب العمل مع عماله على أن يتنازلوا عن الدعاوى التي تنشأ لهم ضده بسبب ما قد يصيبهم من الأضرار بسبب قيامهم بالعمل عنده - وهذا على خلاف ما يراه ديجي من عدم التفرقة بين الدعوى وبين حق الالتجاء للقضاء إذ أن الدعوى لديه هي المكنة من مطالبة القاضي بوضع حل لمسألة متنازع عليها وإصدار قرار بشأنها - وهذه المكنة يملكها كل فرد له مصلحة في مسألة ما فالدعوى عنده تكون مقبولة في مجال القانون العام كما في مجال القانون الخاص دون أن يقال دائمًا باستنادها إلى حق ما - وليس ثمة ما يمنع أي فرد من الالتجاء إلى القضاء بشأن نزاع يعرض له حول حق له يدعيه أو ينازعه غيره فيه - والضابط في تسيير دفة حق الالتجاء للقضاء هو أن توجه إجراءات التقاضي لتحقيق الغرض الذي وضعت من أجله وهو وضع حد للمنازعات والخلافات وتصفية المراكز القانونية للمتقاضين وحماية حق كل ذي حق - فإذا حكم لصاحب الدعوى أو الدفع فقد توصل إلى ما كان يصبو إليه وصان حقه من النزاع القائم حوله وإن خسر دعواه فيحكم عليه بالمصاريف.
أما أن توجه إجراءات التقاضي لغرض غير مشروع وأن يسيء الفرد حقه في الالتجاء للقضاء فيستخدم هذا الحق بقصد التشهير بخصمه والكيد له أو بقصد تكبيده تكاليف مادية ومعنوية أو بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة فهو الأمر الذي لا يقره القانون ولا تبيحه النصوص الواجب إعمالها واحترامها.
3 - إساءة استعمال حق التقاضي:
أصبحت نظرية سوء استعمال الحقوق نظرية عامة تنبسط على جميع الحقوق وأخذ بها الفقه والقضاء الحديثان وانتظمتها تشريعات الدول الحديثة، فقد نصت المادة الخامسة من القانون المدني المصري على ما يلي:
يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
(ب) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقات قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
(ج) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة.
والمعيار الأول الذي وضعته المادة مستمد من توافر نية الإضرار intention de nuire وقد جرى القضاء على استخلاص هذه النية من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق استعمالاً يلحق الضرر بالغير أو من تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق في هذه الحالة – وبذا يتداخل المعيار الثاني وهو استعمال الحق ابتغاء تحقيق مصلحة قليلة الأهمية بالنسبة لما يصيب الغير من ضرر في المعيار الأول ويصبح غير منفصل عنه، والمعيار الثالث هو استعمال الحق استعمالاً يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة كما إذا كان تحقيقها يخالف أحكام القانون أو يتعارض مع النظام العام أو حسن الآداب.
وبذا ترجع كل المعايير الثلاثة لتوافر المصلحة في استعمال الحق ولذا يهمنا تحديد معنى المصلحة في الدعوى حتى نتبين مدى انطباق نظرية إساءة استعمال الحق على الدعوى الكيدية.
المصلحة كشرط لقبول الدعوى:
الحق هو شرط لوجود الدعوى وقبولها لأن الدعوى في نظر البعض عنصر مكمل للحق وفي رأي ثانٍ من توابع الحق وفي نظر ثالث ظهر حركة الحق - فالدعوى تدور مع الحق الذي وجدت لحمايته وجودًا وعدمًا فهي لا توجد إلا لتكملة الحق ولا يكتمل وجود الحق بدونها - وإذا كانت توجد بعض حالات يظهر فيها الحق بغير دعوى وتظهر الدعوى دون حق فإن هذه الحالات ما هي إلا استثناءات لا تبرر الخروج على هذه القاعدة – ونرى أن نورد فيما يلي سردًا لبعض هذه الحالات الاستثنائية وهي:
( أ ) أن يكون صاحب الحق غير رافع الدعوى ومباشرها ويتصور ذلك في حالتين:
أولاً: بالنسبة للدعوى العمومية إذا كانت في العصور الأولى وقبل التطور القانوني يرفعها المجني عليه أو وليه ثم رئُى إزاء التطور الحاجة إلى تنظيم مباشرة هذه الدعوى التي تمس كيان المجتمع وذلك بعد حصر الأفعال غير المشروعة التي تكون الجرائم التي جمعتها النصوص القانونية - فعهد برفع الدعوى إلى النيابة العامة عن الهيئة الاجتماعية وليس معنى ذلك أن أعضاء النيابة هم أصحاب الحق في رفع الدعوى العمومية فالحق للمجتمع وللفرد المجني عليه ولذا يسمح لهذا الأخير بالاشتراك مع النيابة عن طريق الادعاء مدنيًا في إثبات الجريمة توصلاً للحكم له بتعويض عنها - وسمح له بالنسبة لجرائم الجنح بأن يباشر تحريكها بنفسه عن طريق الدعوى المباشرة وإن كان يقف حقه عند حد تحريكها فليس له حق مباشرتها أو استعمالها.
ثانيًا: عديمو الأهلية وناقصوها لا يستطيعون مباشرة الدعاوى المتعلقة بحقوقهم - ويعهد بهذا الحق إلى الأولياء والأوصياء والقامة الخ...... وهنا يمكن القول إن الدعوى موجودة أيضًا لصاحب الحق وهو عديم الأهلية أو ناقصها ولكن لاعتبارات خاصة بتنظيم المعاملات ورعاية لصالح هؤلاء ولتفادي التأثير عليهم من سائر الأشخاص خول القانون حق مباشرة الدعوى لمن يعينون عنهم.
(ب) في الالتزام الطبيعي l’obligation morale يوجد حق للدائن بدليل أن الوفاء له صحيح وليس دفعًا لما لا يجب ولكن ليس ثمة من دعوى تحمي هذا الحق وفي الحقيقة توجد الدعوى ويستطيع صاحب الحق رفعها ولكن للمدين أن يسقطها بدفعه إياها بمضي المدة مثلاً أو بمخالفة الدين للنظام العام كأن يكون دين قمار مثلاً - وهذا الدفع لا يعدم الدعوى وإن كان يشل حركتها إذ لا يكون له أثر ما عليها إلا إذا تمسك به المدين - إلا إذا كان الدفع متعلقًا بالنظام العام وحينئذ تستطيع المحكمة الأخذ به من تلقاء نفسها - والشريعة الإسلامية لا تعرف نظام سقوط الحق بالتقادم فالدائن الذي تقادم دينه لا يزال دائنًا حقيقة ولكن لا يستطيع إقامة الدليل على وجود دينه بعد أن يتمسك المدين بالتقادم.
وإذا كان الحق هو أساس لوجود الدعوى فما هو مكان المصلحة في الدعوى؟
المصلحة شرط لقبول الدعوى وهي الفائدة التي يجنيها رافع الدعوى من الحكم له بما يطلب - إذا كان للمدعي حق اعتدى عليه أو مهدد بالاعتداء تحققت مصلحته في قبول الدعوى ومن ثم فالمصلحة في قبول الدعوى وثيقة الصلة بالاعتداء على الحق فهي تدور معه وجودًا وعدمًا - وإذا كان الاعتداء أو التهديد به هو الذي يحقق المصلحة فهو ليس مرادفًا لها وإن كان سببًا لتحققها – والاعتداء يكون من ناحية أخرى في تحقيق الحاجة إلى حماية القانون وهذه الحاجة هي التي ترادف المصلحة في الدعوى – فالمصلحة إذن هي الحاجة إلى حماية القانون - ففي دعوى المطالبة بدين معين لا ينظر في قبولها إلى نشوء الدين واستقراره في الذمة ودوام انشغالها به – وإنما ينظر فيها إلى تحقيق الشرط في المطالبة بالدين كحلول أجله مثلاً وعدم وجود مانع من المطالبة به مثل سبق الفصل فيه أو حصول الصلح بشأنه أو زوال الصفة من الطالب بحوالته للغير - والدعوى غير المباشرة مثلاً لا ينظر في قبولها إلى وجود حق الدين المطلوب تقريره بل ينظر إلى توافر الشروط التي تحقق مصلحة الدائن في المطالبة بحقوق مدينه مثل إعسار المدين وإهماله في المطالبة بحقوقه قبل الغير.
والمصلحة سواء أكانت قانونية أم اقتصادية يجب أن تكون مصلحة مشروعه وجدية وبذا تصبح المصلحة غير المشروعة عاجزة عن إمكان قبول الدعوى معها.
والمصلحة تكون غير مشروعة إذا كان موضوع الدعوى تنفيذ أو إبطال عقد مخالف للنظام العام أو حسن الآداب أو إذا قصد رافع الدعوى الانتقام من المدعى عليه والكيد له.
( أ ) فإذا كان موضوع الدعوى تنفيذ عقد مخالف للنظام العام أو لحسن الآداب فإن القضاء يمتنع عن سماع مثل هذه الدعوى فإذا لجأ شخص إلى القضاء يطالب خليلته بتنفيذ عقد قائم بينهما موضوعه استمرار العلاقة بينهما، وإذا رفع موظف دعوى على آخر يطالبه بتنفيذ عقد وعد بالرشوة فمثل هذه الدعاوى يرفضها القضاء وسبب رفضه إياها أنه لا يمكن له أن يتدخل لإقامة مركز غير مشروع أو لحماية حق يتعارض مع النظام العام أو حسن الآداب، لأن وظيفة القضاء الأساسية هي رعاية حسن تطبيق القانون وضمان احترام مبادئ النظام العام وحسن الآداب وسيادتها.
(ب) أما إذا كان موضوع الدعوى إبطال العقد المخالف للآداب أو للنظام العام فقد اختلف الفقه والقضاء بشأن قبولها وهل تعتبر مصلحة رافعها مشروعة أو غير مشروعة - ونرى مع الرأي الذي يقول بأن مصلحة المدعي في أمثال هذه الدعاوى هي مصلحة مشروعة تقبل الدعوى على أساسها إذ أنه ليس للقضاء أن يتخلص من المنازعات المخالفة للأخلاق والآداب ما دام أنه في النهاية يضع الأمور في نصابها بل أنه مما يخالف النظام العام وحسن الآداب أن ترفض دعوى المدعي باسترداد ما دفع بناءً على عقد مخالف للنظام العام أو للآداب وأن يظل ما دفع بين يدي من تسلمه لأن في ذلك محافظة على حالة مخالفة للآداب - نقول ذلك بينما أخذت بعض المحاكم بالرأي العكسي إذ قضت محكمة الاستئناف الأهلية (أنه إذا ظهر للمحكمة أن العقد باطل لعدم مشروعية سببه وجب عليها ألا تساعد أيًا من الطرفين بل تترك الحالة على ما هي عليه فلا تأمر بتنفيذ ما لم ينفذ ولا بإعادة ما تنفذ من التعهد بمقتضى العقد، وعلى ذلك إذا كان هذا العقد الباطل عقد بيع وحصل تسليم جزء من الأرض المبيعة بقى هذا الجزء مع المشتري وبقى ما لم يسلم مع البائع [(3)] ولكن من الأحكام المصرية ما قرر العدول عن هذا الرأي وأخذ بجواز الاسترداد وجاء تأييدًا لهذا الرأي حكم لمحكمة العطارين جاء فيه (إنه اختلفت الآراء في جواز استرداد ما دفع تنفيذًا لتعهد قائم على سبب مخالف للآداب أو للنظام العام إلا أنه مما لا شك فيه أن نتيجة الرأي القائل بعدم جواز الاسترداد يؤدي حتمًا إلى إقرار حالة يأباها القانون - لأن حرمان أحد العاقدين من استرداد ما دفعه عقابًا له على ما فرط منه معناه تمكين العاقد الآخر من الاستمتاع بما حصل جزاء على إجرامه أو تدليسه أو خروجه على الآداب العامة ومهما قال أنصار هذا الرأي في تأييده فالأوفق والأكثر انطباقًا على القانون ألا يترتب على العقد ذي السبب غير المشروع أي أثر قانوني وأن تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل العقد [(4)]، أما الفقه في مصر فإن بعضه يساير هذا الرأي الأخير إذا جاء في نظرية العقد للدكتور السنهوري (أن الرأي الجدير بالاتباع هو الرأي الذي يذهب إلى جواز الاسترداد في كل الأحوال لأنه يتمشى مع منطق البطلان)، وجاء في ديمولومب [(5)] (أن في الأخذ بالرأي القائل بعدم جواز الاسترداد خروجًا على قواعد العدالة) ويرى ديموج هذا الرأي [(6)]، وقد أيدت محكمة النقض الفرنسية هذا الرأي فاعتبرت أن تبديد المبلغ المقبوض لتحقيق غرض غير مشروع خيانة أمانة.
(ج) الدعوى المرفوعة بقصد الانتقام أو الكيد للمدعى عليه:
هذا النوع من الدعاوى التي ترفع بقصد الإضرار بالمدعى عليه يحمل في طياته أبلغ تصوير لتوافر المصلحة غير المشروعة وقد قال أحد الفقهاء [(7)] إن إساءة استعمال الحق هي عبارة عن عدم وجود مصلحة أو وجود مصلحة غير مشروعة يقصدها من يستعمل الحق، وهذا تطبيق للمبدأ العام (لا دعوى حيث لا مصلحة) فلا حق بلا مصلحة أدبية أو مادية تكون أساسًا له أو لاستعماله فعندما لا توجد مصلحة في التقاضي يصبح الدافع إلى القيام برفع الدعوى غير شرعي وبالتالي يمكن أن يكون جنحة مدنية، وعندئذ لا تكون بصدد مباشرة حق من الحقوق، بل بصدد إساءة استعمال يؤدي إلى مسؤولية صاحبه) وجاء في أوبري ورو (إن استعمال الحق يصبح غير مشروع إذا كان ذلك الاستعمال لا يتم في سبيل مصلحة يعترف بها القانون أيًا كان الدافع لهذا الاستعمال سوء النية أم سواه) [(] وجاء في جلاسون (إن حق الالتجاء إلى القضاء مفتوح للجميع وعلى كل شخص ألا يستعمل هذه الحرية إلا على مسؤوليته فإذا أقام شخص دعوى على آخر دون استناد إلى حق بل عن سوء نية وسبب له بذلك ضررًا، أو إذا رفع عليه دعوى مع وجود حق له ولكن في حالة عدم توافر الشروط المطلوبة كعدم توفر مصلحة شرعية وبقصد الإساءة إليه، فعليه دفع تعويض، وليس من شك في أننا نكون بصدد إساءة استعمال للحق عندما يكون لشخص حق (المداعاة) دعوى ولكنه يستعمله بسوء نية وبدون وجود ما يبرر هذا الاستعمال من مصلحة أو بواعث مشروعة) [(9)]، ولوضع ضابط لتوافر المصلحة الغير المشروعة اختلفت أحكام المحاكم فبعضها كان يشترط توافر سوء النية عند رافع الدعوى وبعضها كان يكتفي بأن يكون المدعي قد رفع دعواه عن رعونة وعدم احتياطية مما سبب ضررًا بالمدعى عليه باعتبار أن هذا ينطوي على سوء النية، ومن هذا الرأي الأخير المحكمة التجارية بالإسكندرية إذ جاء بحكمها إن (الدعوى المرفوعة بإشهار إفلاس شخص نتيجة تسرع وبدون تروٍ بسبب توقف هذا الشخص عن دفع دين لم يستقر تكون إساءة لاستعمال حق الدعوى) [(10)] وحكمت محكمة المنصورة بأنه (من المتفق عليه قضاءً أن طلبات إشهار الإفلاس المرفوعة بسبب التوقف عن دفع دين ناتج من حساب جار متنازع عليه وما زال موضوعًا لدعوى أمام القضاء مرفوعة من المدعى عليه في دعوى الإفلاس تكون تعسفية وكيدية [(11)] على أنه من الناحية العملية ليس ثمة فارق كبير بين كلا الرأيين، والعبرة بالإثبات فإذا اكتفينا بعدم الاحتياط والتروي يكون على من يدعي عليه بأنه رفع الدعوى بغير مصلحة مشروعة تبرر ذلك أن يثبت أنه رفعها باحتياط وتروٍ، أما إذا اشترطنا سوء النية فعلى من يطالب بالتعويض أن يقيم عليه الدليل [(12)].
وبهذا يكون قصد الإضرار والكيد في رفع الدعوى مظهرًا من مظاهر عدم مشروعية المصلحة - ويكون تفسير المعايير التي نصت عليها المادة الخامسة من القانون المدني كضوابط لنظرية سوء استعمال الحقوق في خصوص حق الدعوى - يكون تفسيرها جميعًا على ضوء المصلحة في الدعوى وهل هي مشروعة أو غير مشروعة.
منقول للفائدة
اخوكم المحامي/ بشار االمصري
الحق هو كل مصلحة مادية أو أدبية يحميها القانون - ومهمة القانون هي تنظيم حقوق الأفراد وواجباتهم وكفالة احترام المجموع لهذه الحقوق بحيث تصبح قائمة غير معتدي عليها - وطبيعة الحياة الاجتماعية تقتضي اشتباك المصالح وتعارض حقوق الأفراد والتنازع عليها فيجب أن يظل إشراف القانون قائمًا في هذا الخصوص ليحسم ما يجد من خلافات ويفض ما يثور من منازعات - وهذا الإشراف المباشر على اشتباك الحقوق يعهد به القانون إلى سلطة تسهر عليه وتتوفر له – وهي سلطة القضاء.
وطبيعي وقد وجدت هذه السلطة أن يخول القانون الفرد حق الالتجاء إليها لحماية حقوقه وصونها من العدوان، وإذا كان الأفراد بحسب الأصل مطالبين بأنفسهم باحترام هذه الحقوق فإن عدم مراعاتهم لذلك يترتب عليه أن يكون لصاحب الحق المعتدى عليه إلزام المعتدي باحترام حقه – وهذا الإلزام لا بد من وسيلة قانونية لتحقيقه - وهذه الوسيلة هي الدعوى.
وعلى هذا الوجه تكون الدعوى هي الوسيلة القانونية التي يتوجه بها الشخص للقضاء للحصول على تقرير حق له أو حمايته [(1)] وكان التعريف التقليدي للدعوى أنها حق الشخص في المطالبة أمام القضاء بكل ما له أو ما يكون واجب الأداء له، وهذا هو تعريف بوتييه – وقريب منه تعريف الفقه الإيطالي إذ يرى جيوفندا أن الدعوى حق تابع للحق الأصلي الذاتي - فالقضاء وهو السلطة القائمة على حماية الحقوق الذاتية لا يمكن أن يتدخل من تلقاء نفسه لحماية حق اعتدى عليه أو أنكر وجوده بل خول الفرد صاحب الحق المعتدى عليه حق دعوة هذه السلطة إلي التدخل لحماية حقه - وهذا الحق المخول له هو الدعوى.
وقد تكشف اليوم عدم صحة النظر إلى الدعوى بوصفها حق متميز عن الحق الأصلي الذي تقررت لحمايته إذ أنها عنصر من عناصر الحق هو الحماية القانونية الواجبة باعتبارها مصلحة مادية أو أدبية
والدعوى كوسيلة لحماية الحق قد تستعمل بطريق المطالبة أصلاً وقد تستعمل بطريق الدفع الذي يرد به على الطلب فكل ما يقال عن الدعوى يصدق على الدفوع التي يقدمها الخصم للمدافعة بها عن حقه [(2)].
2 - حق الالتجاء إلى القضاء:
يقول الفقيه أهرنج (أن السلام هو الهدف الذي يبتغيه القانون، والمنازعة هي وسيلة الوصول إليه).
(Le paix est le but que poursuit le droit, la lutte est le moyen de l’atteindre.)
وأن كل فرد قد جبل على السعي للمطالبة بحقه وذلك في صالح المجموع.
وحق الالتجاء إلى القضاء حق تنظمه قواعد القانون العام وتحميه نصوص الدستور فيما تحمى وتنظم من حقوق الأفراد - ولهذا فهناك فارق بين الدعوى وبين حق الالتجاء إلى القضاء لأن تنازل رافع الدعوى عنها تنازل صحيح قانونًا لأنه نزول عن حق من الحقوق الخاصة أما تنازله عن حقه في الالتجاء إلى القضاء عمومًا فهو تنازل غير صحيح لأنه تنازل عن حق من الحقوق العامة – مثل تنازل الشخص عن حق من حقوقه السياسية وهو أمر غير جائز لمخالفته للنظام العام – فيقع باطلاً اتفاق رب العمل مع عماله على أن يتنازلوا عن الدعاوى التي تنشأ لهم ضده بسبب ما قد يصيبهم من الأضرار بسبب قيامهم بالعمل عنده - وهذا على خلاف ما يراه ديجي من عدم التفرقة بين الدعوى وبين حق الالتجاء للقضاء إذ أن الدعوى لديه هي المكنة من مطالبة القاضي بوضع حل لمسألة متنازع عليها وإصدار قرار بشأنها - وهذه المكنة يملكها كل فرد له مصلحة في مسألة ما فالدعوى عنده تكون مقبولة في مجال القانون العام كما في مجال القانون الخاص دون أن يقال دائمًا باستنادها إلى حق ما - وليس ثمة ما يمنع أي فرد من الالتجاء إلى القضاء بشأن نزاع يعرض له حول حق له يدعيه أو ينازعه غيره فيه - والضابط في تسيير دفة حق الالتجاء للقضاء هو أن توجه إجراءات التقاضي لتحقيق الغرض الذي وضعت من أجله وهو وضع حد للمنازعات والخلافات وتصفية المراكز القانونية للمتقاضين وحماية حق كل ذي حق - فإذا حكم لصاحب الدعوى أو الدفع فقد توصل إلى ما كان يصبو إليه وصان حقه من النزاع القائم حوله وإن خسر دعواه فيحكم عليه بالمصاريف.
أما أن توجه إجراءات التقاضي لغرض غير مشروع وأن يسيء الفرد حقه في الالتجاء للقضاء فيستخدم هذا الحق بقصد التشهير بخصمه والكيد له أو بقصد تكبيده تكاليف مادية ومعنوية أو بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة فهو الأمر الذي لا يقره القانون ولا تبيحه النصوص الواجب إعمالها واحترامها.
3 - إساءة استعمال حق التقاضي:
أصبحت نظرية سوء استعمال الحقوق نظرية عامة تنبسط على جميع الحقوق وأخذ بها الفقه والقضاء الحديثان وانتظمتها تشريعات الدول الحديثة، فقد نصت المادة الخامسة من القانون المدني المصري على ما يلي:
يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
(ب) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقات قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
(ج) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة.
والمعيار الأول الذي وضعته المادة مستمد من توافر نية الإضرار intention de nuire وقد جرى القضاء على استخلاص هذه النية من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق استعمالاً يلحق الضرر بالغير أو من تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق في هذه الحالة – وبذا يتداخل المعيار الثاني وهو استعمال الحق ابتغاء تحقيق مصلحة قليلة الأهمية بالنسبة لما يصيب الغير من ضرر في المعيار الأول ويصبح غير منفصل عنه، والمعيار الثالث هو استعمال الحق استعمالاً يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة كما إذا كان تحقيقها يخالف أحكام القانون أو يتعارض مع النظام العام أو حسن الآداب.
وبذا ترجع كل المعايير الثلاثة لتوافر المصلحة في استعمال الحق ولذا يهمنا تحديد معنى المصلحة في الدعوى حتى نتبين مدى انطباق نظرية إساءة استعمال الحق على الدعوى الكيدية.
المصلحة كشرط لقبول الدعوى:
الحق هو شرط لوجود الدعوى وقبولها لأن الدعوى في نظر البعض عنصر مكمل للحق وفي رأي ثانٍ من توابع الحق وفي نظر ثالث ظهر حركة الحق - فالدعوى تدور مع الحق الذي وجدت لحمايته وجودًا وعدمًا فهي لا توجد إلا لتكملة الحق ولا يكتمل وجود الحق بدونها - وإذا كانت توجد بعض حالات يظهر فيها الحق بغير دعوى وتظهر الدعوى دون حق فإن هذه الحالات ما هي إلا استثناءات لا تبرر الخروج على هذه القاعدة – ونرى أن نورد فيما يلي سردًا لبعض هذه الحالات الاستثنائية وهي:
( أ ) أن يكون صاحب الحق غير رافع الدعوى ومباشرها ويتصور ذلك في حالتين:
أولاً: بالنسبة للدعوى العمومية إذا كانت في العصور الأولى وقبل التطور القانوني يرفعها المجني عليه أو وليه ثم رئُى إزاء التطور الحاجة إلى تنظيم مباشرة هذه الدعوى التي تمس كيان المجتمع وذلك بعد حصر الأفعال غير المشروعة التي تكون الجرائم التي جمعتها النصوص القانونية - فعهد برفع الدعوى إلى النيابة العامة عن الهيئة الاجتماعية وليس معنى ذلك أن أعضاء النيابة هم أصحاب الحق في رفع الدعوى العمومية فالحق للمجتمع وللفرد المجني عليه ولذا يسمح لهذا الأخير بالاشتراك مع النيابة عن طريق الادعاء مدنيًا في إثبات الجريمة توصلاً للحكم له بتعويض عنها - وسمح له بالنسبة لجرائم الجنح بأن يباشر تحريكها بنفسه عن طريق الدعوى المباشرة وإن كان يقف حقه عند حد تحريكها فليس له حق مباشرتها أو استعمالها.
ثانيًا: عديمو الأهلية وناقصوها لا يستطيعون مباشرة الدعاوى المتعلقة بحقوقهم - ويعهد بهذا الحق إلى الأولياء والأوصياء والقامة الخ...... وهنا يمكن القول إن الدعوى موجودة أيضًا لصاحب الحق وهو عديم الأهلية أو ناقصها ولكن لاعتبارات خاصة بتنظيم المعاملات ورعاية لصالح هؤلاء ولتفادي التأثير عليهم من سائر الأشخاص خول القانون حق مباشرة الدعوى لمن يعينون عنهم.
(ب) في الالتزام الطبيعي l’obligation morale يوجد حق للدائن بدليل أن الوفاء له صحيح وليس دفعًا لما لا يجب ولكن ليس ثمة من دعوى تحمي هذا الحق وفي الحقيقة توجد الدعوى ويستطيع صاحب الحق رفعها ولكن للمدين أن يسقطها بدفعه إياها بمضي المدة مثلاً أو بمخالفة الدين للنظام العام كأن يكون دين قمار مثلاً - وهذا الدفع لا يعدم الدعوى وإن كان يشل حركتها إذ لا يكون له أثر ما عليها إلا إذا تمسك به المدين - إلا إذا كان الدفع متعلقًا بالنظام العام وحينئذ تستطيع المحكمة الأخذ به من تلقاء نفسها - والشريعة الإسلامية لا تعرف نظام سقوط الحق بالتقادم فالدائن الذي تقادم دينه لا يزال دائنًا حقيقة ولكن لا يستطيع إقامة الدليل على وجود دينه بعد أن يتمسك المدين بالتقادم.
وإذا كان الحق هو أساس لوجود الدعوى فما هو مكان المصلحة في الدعوى؟
المصلحة شرط لقبول الدعوى وهي الفائدة التي يجنيها رافع الدعوى من الحكم له بما يطلب - إذا كان للمدعي حق اعتدى عليه أو مهدد بالاعتداء تحققت مصلحته في قبول الدعوى ومن ثم فالمصلحة في قبول الدعوى وثيقة الصلة بالاعتداء على الحق فهي تدور معه وجودًا وعدمًا - وإذا كان الاعتداء أو التهديد به هو الذي يحقق المصلحة فهو ليس مرادفًا لها وإن كان سببًا لتحققها – والاعتداء يكون من ناحية أخرى في تحقيق الحاجة إلى حماية القانون وهذه الحاجة هي التي ترادف المصلحة في الدعوى – فالمصلحة إذن هي الحاجة إلى حماية القانون - ففي دعوى المطالبة بدين معين لا ينظر في قبولها إلى نشوء الدين واستقراره في الذمة ودوام انشغالها به – وإنما ينظر فيها إلى تحقيق الشرط في المطالبة بالدين كحلول أجله مثلاً وعدم وجود مانع من المطالبة به مثل سبق الفصل فيه أو حصول الصلح بشأنه أو زوال الصفة من الطالب بحوالته للغير - والدعوى غير المباشرة مثلاً لا ينظر في قبولها إلى وجود حق الدين المطلوب تقريره بل ينظر إلى توافر الشروط التي تحقق مصلحة الدائن في المطالبة بحقوق مدينه مثل إعسار المدين وإهماله في المطالبة بحقوقه قبل الغير.
والمصلحة سواء أكانت قانونية أم اقتصادية يجب أن تكون مصلحة مشروعه وجدية وبذا تصبح المصلحة غير المشروعة عاجزة عن إمكان قبول الدعوى معها.
والمصلحة تكون غير مشروعة إذا كان موضوع الدعوى تنفيذ أو إبطال عقد مخالف للنظام العام أو حسن الآداب أو إذا قصد رافع الدعوى الانتقام من المدعى عليه والكيد له.
( أ ) فإذا كان موضوع الدعوى تنفيذ عقد مخالف للنظام العام أو لحسن الآداب فإن القضاء يمتنع عن سماع مثل هذه الدعوى فإذا لجأ شخص إلى القضاء يطالب خليلته بتنفيذ عقد قائم بينهما موضوعه استمرار العلاقة بينهما، وإذا رفع موظف دعوى على آخر يطالبه بتنفيذ عقد وعد بالرشوة فمثل هذه الدعاوى يرفضها القضاء وسبب رفضه إياها أنه لا يمكن له أن يتدخل لإقامة مركز غير مشروع أو لحماية حق يتعارض مع النظام العام أو حسن الآداب، لأن وظيفة القضاء الأساسية هي رعاية حسن تطبيق القانون وضمان احترام مبادئ النظام العام وحسن الآداب وسيادتها.
(ب) أما إذا كان موضوع الدعوى إبطال العقد المخالف للآداب أو للنظام العام فقد اختلف الفقه والقضاء بشأن قبولها وهل تعتبر مصلحة رافعها مشروعة أو غير مشروعة - ونرى مع الرأي الذي يقول بأن مصلحة المدعي في أمثال هذه الدعاوى هي مصلحة مشروعة تقبل الدعوى على أساسها إذ أنه ليس للقضاء أن يتخلص من المنازعات المخالفة للأخلاق والآداب ما دام أنه في النهاية يضع الأمور في نصابها بل أنه مما يخالف النظام العام وحسن الآداب أن ترفض دعوى المدعي باسترداد ما دفع بناءً على عقد مخالف للنظام العام أو للآداب وأن يظل ما دفع بين يدي من تسلمه لأن في ذلك محافظة على حالة مخالفة للآداب - نقول ذلك بينما أخذت بعض المحاكم بالرأي العكسي إذ قضت محكمة الاستئناف الأهلية (أنه إذا ظهر للمحكمة أن العقد باطل لعدم مشروعية سببه وجب عليها ألا تساعد أيًا من الطرفين بل تترك الحالة على ما هي عليه فلا تأمر بتنفيذ ما لم ينفذ ولا بإعادة ما تنفذ من التعهد بمقتضى العقد، وعلى ذلك إذا كان هذا العقد الباطل عقد بيع وحصل تسليم جزء من الأرض المبيعة بقى هذا الجزء مع المشتري وبقى ما لم يسلم مع البائع [(3)] ولكن من الأحكام المصرية ما قرر العدول عن هذا الرأي وأخذ بجواز الاسترداد وجاء تأييدًا لهذا الرأي حكم لمحكمة العطارين جاء فيه (إنه اختلفت الآراء في جواز استرداد ما دفع تنفيذًا لتعهد قائم على سبب مخالف للآداب أو للنظام العام إلا أنه مما لا شك فيه أن نتيجة الرأي القائل بعدم جواز الاسترداد يؤدي حتمًا إلى إقرار حالة يأباها القانون - لأن حرمان أحد العاقدين من استرداد ما دفعه عقابًا له على ما فرط منه معناه تمكين العاقد الآخر من الاستمتاع بما حصل جزاء على إجرامه أو تدليسه أو خروجه على الآداب العامة ومهما قال أنصار هذا الرأي في تأييده فالأوفق والأكثر انطباقًا على القانون ألا يترتب على العقد ذي السبب غير المشروع أي أثر قانوني وأن تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل العقد [(4)]، أما الفقه في مصر فإن بعضه يساير هذا الرأي الأخير إذا جاء في نظرية العقد للدكتور السنهوري (أن الرأي الجدير بالاتباع هو الرأي الذي يذهب إلى جواز الاسترداد في كل الأحوال لأنه يتمشى مع منطق البطلان)، وجاء في ديمولومب [(5)] (أن في الأخذ بالرأي القائل بعدم جواز الاسترداد خروجًا على قواعد العدالة) ويرى ديموج هذا الرأي [(6)]، وقد أيدت محكمة النقض الفرنسية هذا الرأي فاعتبرت أن تبديد المبلغ المقبوض لتحقيق غرض غير مشروع خيانة أمانة.
(ج) الدعوى المرفوعة بقصد الانتقام أو الكيد للمدعى عليه:
هذا النوع من الدعاوى التي ترفع بقصد الإضرار بالمدعى عليه يحمل في طياته أبلغ تصوير لتوافر المصلحة غير المشروعة وقد قال أحد الفقهاء [(7)] إن إساءة استعمال الحق هي عبارة عن عدم وجود مصلحة أو وجود مصلحة غير مشروعة يقصدها من يستعمل الحق، وهذا تطبيق للمبدأ العام (لا دعوى حيث لا مصلحة) فلا حق بلا مصلحة أدبية أو مادية تكون أساسًا له أو لاستعماله فعندما لا توجد مصلحة في التقاضي يصبح الدافع إلى القيام برفع الدعوى غير شرعي وبالتالي يمكن أن يكون جنحة مدنية، وعندئذ لا تكون بصدد مباشرة حق من الحقوق، بل بصدد إساءة استعمال يؤدي إلى مسؤولية صاحبه) وجاء في أوبري ورو (إن استعمال الحق يصبح غير مشروع إذا كان ذلك الاستعمال لا يتم في سبيل مصلحة يعترف بها القانون أيًا كان الدافع لهذا الاستعمال سوء النية أم سواه) [(] وجاء في جلاسون (إن حق الالتجاء إلى القضاء مفتوح للجميع وعلى كل شخص ألا يستعمل هذه الحرية إلا على مسؤوليته فإذا أقام شخص دعوى على آخر دون استناد إلى حق بل عن سوء نية وسبب له بذلك ضررًا، أو إذا رفع عليه دعوى مع وجود حق له ولكن في حالة عدم توافر الشروط المطلوبة كعدم توفر مصلحة شرعية وبقصد الإساءة إليه، فعليه دفع تعويض، وليس من شك في أننا نكون بصدد إساءة استعمال للحق عندما يكون لشخص حق (المداعاة) دعوى ولكنه يستعمله بسوء نية وبدون وجود ما يبرر هذا الاستعمال من مصلحة أو بواعث مشروعة) [(9)]، ولوضع ضابط لتوافر المصلحة الغير المشروعة اختلفت أحكام المحاكم فبعضها كان يشترط توافر سوء النية عند رافع الدعوى وبعضها كان يكتفي بأن يكون المدعي قد رفع دعواه عن رعونة وعدم احتياطية مما سبب ضررًا بالمدعى عليه باعتبار أن هذا ينطوي على سوء النية، ومن هذا الرأي الأخير المحكمة التجارية بالإسكندرية إذ جاء بحكمها إن (الدعوى المرفوعة بإشهار إفلاس شخص نتيجة تسرع وبدون تروٍ بسبب توقف هذا الشخص عن دفع دين لم يستقر تكون إساءة لاستعمال حق الدعوى) [(10)] وحكمت محكمة المنصورة بأنه (من المتفق عليه قضاءً أن طلبات إشهار الإفلاس المرفوعة بسبب التوقف عن دفع دين ناتج من حساب جار متنازع عليه وما زال موضوعًا لدعوى أمام القضاء مرفوعة من المدعى عليه في دعوى الإفلاس تكون تعسفية وكيدية [(11)] على أنه من الناحية العملية ليس ثمة فارق كبير بين كلا الرأيين، والعبرة بالإثبات فإذا اكتفينا بعدم الاحتياط والتروي يكون على من يدعي عليه بأنه رفع الدعوى بغير مصلحة مشروعة تبرر ذلك أن يثبت أنه رفعها باحتياط وتروٍ، أما إذا اشترطنا سوء النية فعلى من يطالب بالتعويض أن يقيم عليه الدليل [(12)].
وبهذا يكون قصد الإضرار والكيد في رفع الدعوى مظهرًا من مظاهر عدم مشروعية المصلحة - ويكون تفسير المعايير التي نصت عليها المادة الخامسة من القانون المدني كضوابط لنظرية سوء استعمال الحقوق في خصوص حق الدعوى - يكون تفسيرها جميعًا على ضوء المصلحة في الدعوى وهل هي مشروعة أو غير مشروعة.
منقول للفائدة
اخوكم المحامي/ بشار االمصري