تعد المخالفة التأديبية الأساس الذي تدور حوله كل دراسة متعلقة بالتأديب. وتقوم كل من الجريمة الجزائية والمخالفة التأديبية على فكرة الخطأ بمعنى أن الواقعة المنسوبة إلى الموظف سواء كانت تشكل جريمة جنائية، أو مخالفة تأديبية تبني على أنه أتى أفعالاً، أو امتنع عن القيام بأعمال تمثل انحرافاً عن السلوك القويم الذي يتطلبه المجتمع، أو الوظيفة العامة التي يقوم بأعبائها. وتشتمل هذه الدراسة على بيان ما هية الدعوى التأديبية في مبحث أول، ثم بيان الاستقلال بين الدعويين التأديبية والجزائية في مبحث ثان ٍ وفي مبحث ثالث حجية الحكم الجزائي وأثره على التأديب الوظيفي .
Abstract
The Disciplinary crime is the base for every study in the field of Disciplinary punishment. Both Criminal and Disciplinary Crimes are based on the principle of default in the meaning that the employee has committed actions or abstained from doing actions representing a breach of the right doing requested by the society as will as breach of the Public duties which the official is required to carry out. The study includes the Nature of the Disciplinary Action in the first section. Then after the Independence of both cases criminal and Disciplinary. The Third section deals with the effect of the criminal sentence on the Disciplinary Action.
المقدمـة
ماهية الموضوع :
قد يرتكب الموظف العام ذنباً إدارياً، وحينئذ قد يخضع لإجراءات التحقيق التأديبي، وتفرض عليه السلطة المختصة الجزاء التأديبي المناسب في حال إدانته، إلا أن هذا الذنب الإداري، أو المخالفة المسلكية قد تشكل أيضا مخالفة جزائية ينص عليها قانون العقوبات، وفي هذه الحالة تظهر إشكالية العلاقة بين الدعوى التأديبية والدعوى الجزائية.
أهمية الموضوع :
على الرغم من أن بعض الفقهاء، قد تناولو موضوع العلاقة بين الدعوى التأديبية والدعوى الجزائية بالبحث والتمحيص إلا أن هذا الموضوع ما زال يثير الكثير من المسائل التي تحتاج إلى تأصيل ومناقشة ومحاولة إيجاد حلول لها، وهذا ليس استنتاج من عندنا ولكن المنازعات التي طرحت على القضاء هي التي تؤكد هذا الاستنتاج وتدعمه، مما يدعو الباحث لدراسة هذا الموضوع .
لا شك في ان الموضوع يتعلق بصالح المرفق العام، وإذا ما كان ثمة وجه جزائي في المخالفة المسلكية، فإنه ليس من المنطق إبقاء موظف ارتكب جرما يشين سمعته ويضر بسمعة هذا المرفق على رأس عمله في هذا المرفق. وعلاوة على هذا، فإن هذا الموضوع يتعلق بضمانات قانونية وقضائية للموظف المتهم أثناء إحالته للجهة التأديبية المختصة، ولو افترضنا ان الموظف المتهم قد أحيل إلى القضاء المختص، وحكم هذا القضاء بإنعدام الوجود المادي للواقعة التي يحاكم بها الموظف، وأنه وجه لإدانته وقرر الحكم ببراءته، فما هو اثر البراءة على وضعه الوظيفي ؟ هذه المسائل اخرى غيرها هي ما سنتناوله في هذا البحث .
خطة البحث :
تقتضي طبيعة هذا الموضوع تقسيمه إلى ثلاثة مباحث، يتناول في الأول منها ماهية الدعوى التأديبية من حيث تعريفها ووسائل اكتشافها وجهة الاتهام فيها، أما المبحث الثاني – فيدور حول استقلال الدعوى التأديبية عن الدعوى الجزائية في مجال التحقيق، وتأثير التحقيق الجزائي على التحقيق التأديبي، أما المبحث الأخير فسيخصص لموضوع حجية الحكم الجزائي واثره في التأديب الوظيفي .
المبحث الاول
ماهية الدعوى التأديبية
إن المخالفة التأديبية تقوم أساساً على أركان، قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته ومقتضياتها وكرامتها، ولا يقصد بواجبات الوظيفة تلك المنصوص عليها في القوانين والانظمة المختلفة إدارية، كانت ام غير إدارية فقط، بل يقصد بها ايضا الواجبات التي يقتضيها حسن انتظام، واطراد العمل في المرافق العامة ولو لم ينص عليها، وبمعنى آخر : ” أن الأفعال المكونة للمخالفة المسلكية مردها بوجه عام إلى الاخلال بواجبات الوظيفة “.
ويطلق الفقه والقضاء تسميات مختلفة على الخطأ التأديبي كالجريمة التأديبية(1)والمخالفة التأديبية(2)، والذنب الاداري (3)، كما استخدمت محكمة العدل العليا الأردنية في بعض أحكامها اصطلاح المخالفة المسلكية (4). وواضح أن هذه المصطلحات جميعاً تعبر عن معنى واحد، هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو خروجه عن مقتضياتها، أو ارتكابه عملاً من الأعمال المحرمة عليه بموجب القوانين والأنظمة أو أوامر الرؤساء في حدود القانون .
ويستفاد مما سبق ذكره بأن المسؤولية التأديبية للموظف تقوم على عنصرين : الاول ضرورة توافر الصفة الوظيفية للموظف المراد تأديبه، والثاني المخالفة التأديبية.
فالجريمة التأديبية لها ذاتيتها التي تستقل بها عن صور الجرائم الاخرى، فهي تنهض على أركان ومقومات وأسس وسمات غير تلك التي تنهض عليها الجرائم الأخرى، كالجريمة الجنائية، وبناءً على ذلك فإن تحديد ماهية هذه الجريمة، يتطلب منا بيان المقصود منها، والتعرض لسماتها الأساسية.
هذا ولم يعرّف المشرع الأردني، والمشرع المصري المخالفة التأديبية، ولم يحددا المقصود منها بالرغم من النص على الكثير من قواعدها وأحكامها، إلا أن الفقه، والقضاء تصدى لتعريفها، وأرسى العديد من المبادئ والأحكام، والأسس المنظمة لها.
فعلى صعيد الفقه، فإن استاذنا الدكتور سليمان محمد الطماوي يعرفها بأنها”كل فعل، أو امتناع يرتكبه العامل يجافي واجبات منصبه”(5) .
ويعرفها الدكتور طعيمة الجرف : بأن الجريمة التأديبية تعني “أن يأتي الموظف عملاً يكون من شأنه الإخلال بمقتضيات الوظيفة أو لا يتفق مع مركزه كموظف عام “(6) .
وعلى صعيد القضاء، فقد تعرضت محكمة العدل العليا الأردنية لتعريف المخالفة التأديبية بمناسبة تصديها لدعاوى التأديب، فقد أطلق القضاء الإداري في الأردن تسمية المخالفة المسلكية على المخالفة التأديبية، واعتبر قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته أو مخالفة صاحب المهنة لقوانينه الخاصة(7) .
أما من جانبنا فإننا نميل إلى تعريف المخالفة التأديبية بأنها: ” كل فعل يأتيه الموظف العام مخالفاً بذلك أحكام القانون، أو مقتضيات واجبات وظيفته المنصوص عليها، أو غير المنصوص عليها والتي لا تتفق مع حسن سير المرفق العام، وسواء أرتكب الفعل داخل الوظيفة أو خارجها “.
ومن السمات الرئيسية للجريمة التأديبية، ارتباطها اللصيق بالوظيفة أو المهنة، فلكل صنف من أصناف الوظائف مجموعة من الواجبات يتعين على شاغلها الوفاء بها كما أن يوجد محظورات يتعين عليه تجنبها( .
ومن السمات الرئيسية للجريمة التأديبية هو عدم خضوعها لقاعدة ” لا جريمة إلا بنص ” فالجرائم الجزائية محددة على سبيل الحصر مقدماً، أما المخالفة التأديبية فإنها غير محددة، ولا تنطبق عليها هذه القاعدة، وعليه فإن المشرع قد قام بتحديد العقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على الموظف المذنب تأديبيا وعلى نحو لا يتيح لسلطة التأديب الخروج عن العقوبات المنصوص عليها، إلا أنه لم يفعل ذلك في مجال التجريم، حيث ذكر أهم الواجبات والمحظورات التي تشكل مخالفتها جرما تأديبيا وترك لسلطة التأديب إضافة وتجريم أنماط أخرى من السلوك، شريطة أن تلتزم بفرض أحد العقوبات التأديبية المبينة حصراً في التشريع .
هذا وسنقوم بتناول هذه الموضوعات في ثلاثة مطالب نخصص أولها للتعريف بالمخالفة المسكلية، وثانيها لكيفية اكتشاف المخالفة المسلكية، أما المطلب الثالث فسنخفصصه للجهة المختصة بتوجيه الاتهام التأديبي.
المطلب الأول تعريف المخالفة المسلكية(9)
لقد أغفلت غالبية التشريعات التي نتناولها بالبحث تعريف المخالفات المسلكية، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة هذه المخالفة المسلكية التي لا يمكن حصرها لإعتبارات تكمن في طبيعة الوظيفة ذاتها، وذلك عكس الجريمة الجنائية، ففي فرنسا خلت قوانين الخدمة المدنية من أي تعريف للمخالفة المسلكية، فقد نصّت المادة (29) من القانون الفرنسي رقم (83/834) الصادر في 13/7/1983 الذي يشكل القسم الأول من نظام الموظفين العموميين في فرنسا ” كل خطأ يرتكبه الموظف في أداء أو بمناسبة ممارسة مهمّات وظيفته يعّرضه لعقوبة تأديبية دون أي مساس بالعقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات(10)، وهذا النص هو ذاته الوارد في المادة (11) من النظام القانوني العام للموظفين الصادر في فرنسا في 4فبراير 1954م(11) ،ويستخلص من تلك النصوص أن المخالفة المسلكية يجب أن ترتبط بممارسة أداء مهمات الوظيفة العامة، كما أن هذه النصوص لا تُعد تعريفاً قانونياً للمخالفة المسلكية، ولقد سلك المشرع الأردني مسلك المشرع الفرنسي، فقد حرص على ألا يضع تعريفاً مانعاً جامعاً لهذه المخالفة، كما انه لم يضع إطارا مغلقا لمفهوم المخالفة المسلكية، حتى لا يسري مبدأ لا جريمة إلا بنص، وهو المبدأ المعروف في مجال الجريمة الجنائية، فقد اكتفى المشرع الأردني في هذا المجال بأن نص على بعض الواجبات التي يتعين على الموظف القيام بها، كما أورد بعض المحظورات التي يتعين عليه أن يمتنع عن إتيانها، فإذا ما قصر في أداء واجب عليه أو ارتكب فعلاً محظوراً عليه إتيانه، فإنه يقع تحت طائلة المسؤولية التأديبية، وقد حرص المشرع الأردني في المادة (65) من نظام الخدمة المدنية رقم (55) لسنة 2002(12) على النص على مجموعة من الواجبات التي يتعين على الموظف القيام بها، كما نص المادة (66) من نفس النظام على مجموعة من الأفعال المحظورة على الموظف، إذ قررت كل موظف يخالف المحظورات المنصوص عليها في هذه المادة، يعاقب تأديبيا، ويستخلص من تلك المواد بأن المشرع الأردني لم يعمل على حصر واجبات الموظف والتزاماته، بل أورد بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وذلك لأن بعضا من هذه الواجبات والالتزامات قد جاء ضمن عبارات عامة لا يمكن ضبط الأفعال التي تقع تحت نطاقها، ولذلك فإنه يمكن القول : أن النصوص القانونية المتعلقة بالتأديب الوظيفي لا تورد إلا بعض امثلة للسلوك الخاطئ الذي يحاسب عليه الموظف، إلا أن هذه النصوص لا تضع قائمة كاملة بكامل الافعال التي يعاقب عليها الموظف تأديبيا(13) .
يتضح لنا مما سبيق أن مبدأ ” لا جريمة إلا نص ” المعروف في النظام الجنائي لا يعرفه النظام التأديبي في الاردن، إذ لا نجد حصراً أو تحديداً للجرائم التي يرتكبها الموظف العام، كما هو الحال في بعض الدول(14).
ولقد ذهب القضاء الإداري بشكل عام، والذي لا ينكره دوره في خلق المبادئ في مجال القانون الإداري إلى تعريف المخالفة المسلكية، وحرص على إبراز خصائصها، وعناصرها وبنيت أحكامه أن سبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته، أو اتيانه عملاً من الأعمال المحرمة عليه، أو المحظورة عليه، أما القضاء الإداري الأردني المتمثل بمحكمة العدل العليا فإنه لم يورد تعريفا صريحا للمخالفة المسلكية، ولم تتعرض له محكمة العدل العليا بصورة مباشرة، وإنما أشارت إليه وهي في صدد بيان استقلال المخالفة المسلكية عن الجريمة الجزائية حيث قالتإن المخالفة التأديبية، هي تهمة قائمة بذاتها مستقلة عن التهمة الجزائية، قوامها مخالفة الشخص لواجبات وظيفته أو مهنته ومقتضياتها وكرامتها، بينما التهمة الجزائية هي خروج المتهم على المجتمع فيما تنهي عنه القوانين الجزائية، أو تأمر به، ويبقى هذا الاستقلال قائما حتى لو كان ثمة ارتباط بين التهمتين التأديبية، والجزائية )(15).
وقالت: أيضاَ: (إن المخالفة المسلكية التي يرتكبها الموظف قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته، وهي مستقلة عن التهمة الجزائية التي أدين بها الموظف … الخ )(16) .
ويلاحظ مما تقدم بأن المشرع في غالبية الدول لم يضع تعريفاَ للمخالفة المسلكية، بل اكتفى بإيراد أمثلة لهذه المخالفة، مما دعا الفقه الإداري إلى التصدي لتعريف المخالفة المسلكية، ومن بين هذه التعريفات، تعريف الدكتور عبد الفتاح حسن الذي عرف المخالفة المسلكية في نطاق الوظيفة العامة بأنها ” كل تصرف يصدر عن العامل أثناء أداء الوظيفة، أو خارجها يؤثر فيها بصورة قد تحول دون قيام المرفق بنشاطه على الوجه الاكمل، وذلك متى ارتكب هذه التصرف عن إرادة آثمة “(17). وعرفها الدكتور محمد جودت الملط بأنها ” إخلال بواجبات الوظيفة إيجابا أو سلبا، ولا يقصد بواجبات الوظيفة الواجبات المنصوص عليها، بل يقصد بها أيضا الواجبات التي يقتضيها حسن النظام وإطراد العمل في المرافق العامة ولو لم ينص عليها “(18). كما عرفها الأستاذ الدكتور سليمان محمد الطماوي بأنها ” كل فعل أو امتناع يرتكبه العامل ويجافي واجبات منصبه “(19) .
وفي الفقه الفرنسي فإن الفقيه سالون يعرف المخالفة المسلكية بأنها “أعمال إيجابية أو سلبية تشكل مخالفة للواجبات التي تفرضها الوظيفة التي يمارسها الموظف”(20)، ويعرفها الفقيه دليبريه بأنها ” تصرف أو إهمال ينسب لمرتكبه، ويعاقب عليه القانون بعقوبة تأديبية (21)، كما يعرفها الفقيه كاترين بأنها ” الخطأ المرتبط بالوظيفة “(22) .
هذا وقد أسهم شُرّاح القانون الإداري الأردني في تعريف المخالفة المسلكية فذهب بعضهم إلى تعريف المخالفة المسلكية بأنها : ” فعل إيجابي أو سلبي يرتكبه الموظف مخالفة للواجبات الخاصة التي تفرضها عليه صفته الوظيفية “(23). أما الدكتور منصور العتوم فيعرف المخالفة المسلكية بأنها:”فعل أو امتناع إرادي يخالف واجبات الوظيفة، أو مقتضياتها، ويصدر ممن تتوفر فيه صفة الموظف العام “(24) .
وبعد استعراضنا لمحاولات الفقه والقضاء الإدرايين تعريف وتحديد المخالفة المسلكية، فإنه يظهر لنا بوضوح أنه من الصعب أن نضع تعريفاً مانعاً جامعاً للمخالفة المسلكية خاصة، وأن القضاء الإداري صاحب الحق في تقدير وجود المخالفة المسلكية، وذلك إذا ما كانت المخالفة تشكل مساساً بمقتضيات الوظيفة أم لا، وهذا المعيار هو بلا شك معيار نسبي في حد ذاته قد يختلف من وظيفة إلى أخرى، أو من سلطة تأديبية إلى اخرى .
وعلى هذا الأساس فإنني أميل إلى تعريف المخالفة المسلكية بأنها ” إخلال شخص ينتمي إلى مرفق عام بالواجبات التي يلقيها على عاتقه انماؤه إليها “.
ومن خلال هذه الفهم فإننا نلاحظ اتساع المخالفات المسلكية وعدم تحديدها، وهو الأمر الذي يتطلب وجود رقابة قضائية على سلطات التأديب وهذه الرقابة تعد اكبر ضمانة لحماية الموظف العام في مواجهة صلاحية الإدارة الواسعة في تكييف الأفعال التي تشكل مخالفات مسلكية، ولا سيما أن المخالفة المسلكية يدخل في تكوينها إعتبارات مادية، وإعتبارات أدبية(25). فقد قضت محكمة العدل العليا بأنه “تبين من القرار المطعون به أن الذي ثبت ضد المستدعي هو أن كمية الجميد والسمن التي اخذها من المدعو … لم يأخذها على سبيل الرشوة وإنما ابتاعها منه مقابل ثمن تعهد بدفعه في نهاية الشهر الذي تم به الشراء”. وعلى ذلك فإن ما توصل إليه المجلس التأديبي من أن هذه الواقعة تشكل استغلالاً للوظيفة بسبب أنه يوجد للبائع قضايا إجرائية مطروحة للتنفيذ بدائرة الإجراء التي يشرف عليها المستدعي لا يتفق وأحكام القانون؛ وإذ أن مجرد كون البائع يراجع دائرة الإجراء في قضايا خاصة به لا يجعل الشراء فيه إستغلالاً للوظيفة ما دام لم يدع ِ بأن الثمن كان أقل من السعر الرائج “(26).
أما من وجهة نظرنا فإننا نرى بأن ما ذهبت إليه المحكمة الموقرة غير دقيق، إذ إن من واجبات الموظف ألا يقيم علاقة من أي نوع كان مع أي مراجعة لدائرته فشراء هذا الموظف من المراجع هو في حد ذاته موضع شبهة ، إذ إن المُراجع، وعلى الأغلب، سيحابي الموظف بالثمن، تزلفاً له وبقصد إنجاز أعماله التي يراجع الموظف بشأنها .
المطلب الثاني كيفية اكتشاف المخالفات المسلكية :
يهدف التأديب إلى انضباط سير المرافق العامة بالدولة، ودوام استمرارها وانتظامها، فهذه المرافق تضم عدداً كبيرا من العاملين الذين يسيرون هذه المرافق وينفذون سياستها في مختلف المجالات، ولا تستطيع جهة الإدارة أن تؤدي مسؤليتها على الوجه الأكمل، إلا إذا كان بمقدورها مواجهة ما قد يحدث من خلل اثناء سير العمل، وبالأسلوب المناسب، لذا فإن التأديب يهدف إلى حسن سير المرافق العامة، وانتظام سير العمل بها وهذا الهدف يجعل رسالة التأديب مختلفة عن رسالة أي نظام عقابي آخر، فتحقيق الفاعلية للادارة لا يعني مجرد الردع الذي هو هدف أساسي من فرض العقوبة في قانون العقوبات، فالنظام التأديبي السليم لا يكتفي بالتأكيد من قيام المخالفة المسلكية لعقاب مرتكبها، وإنما يتعدى ذلك إلى بحث الأسباب التي جعلت ارتكاب المخالفة امرا ممكنا بهدف إعادة النظر في التشريع وإصلاح الخلل في التنظيم الإداري، هذا ويثور التساؤل هنا عن الاسباب الكامنة وراء اصدار سلطة التأديب اوامرها بالتحقيق، وما إذا كانت تلك الأسباب تتمثل في وجود شكوى، أو طلب إذن يتم بناءً عليه اصدار قرارها بإجراء التحقيق مع الموظف محل المساءلة التأديبية .
ومن البديهي، فإن تأديب الموظف يبدأ بقرار إحالته إلى التحقيق أمام الجهة المختصة، حيث سنتولى بيان الجهة المختصة بعملية الإحالة إلى التحقيق، ثم نتطرق إلى البحث في الأسباب الكامنة وراء تحريك السلطة المختصة للقضية التأديبية واصدارها لقرارها، الآمر بإجراء التحقيق مع الموظف الذي ارتكب المخالفة المسلكية وهذه الأسباب تكمن في الشكوى المقدمة وإمكانية ارتكاب الموظف لمخالفة مسلكية. وقد يتم اكتشاف المخالفة المسلكية نتيجة إعمال أوجه الرقابة الإرادية المختلفة ومن بينها أسلوب التدقيق الإداري التلقائي (27)، والاشراف الدقيق والمراجعة اليقضة والمتابعة الدائمة، وقد يتم اكتشاف المخالفة المسلكية بوسائل الإعلام، كما قد يتم اكتشاف العديد من المخالفات المسلكية وارتكابها بعدة طرق مختلفة كالرقابة الداخلية أو الخارجية كما يمكن ان ينهض الثبوت المادي للمخالفات التأديبية على صلاحيات السلطة الرئاسية في الرقابة على العاملين وسنتولى شرح طرق اكتشاف المخالفات المسلكية على النحو التالي :
أولا ً: الشكوى: من خلال دراستنا لموضوع السلطة التأديبية لم نجد فيها تعريفاً محدداً للشكوى في المجال التأديبي، إلا أن بعض الفقه عرفها بأنها “التعبير عن إرادة الشخص القانوني طبيعياً كان ام معنوياً بأن التضرر من مخالفة أو خرق للقانون أحدث نوعا من الاضرار سواء بمقدم الشكوى نفسه، أو بغيره من الاشخاص”(28). هذا وقد نص الاعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر بتاريخ 26 آب 1789 على حق المجتمع في محاسبة أي موظف عام عما يمكن أن يرتكبه من أخطاء في ممارسة مهامه الوظيفية(29) .
ويجدر التنويه إلى أن الشكوى ليست دعوى قضائية، لذا لا يشترط فيها أن تصدر عن صاحب المصلحة فيها، وإنما يجب أن تكون متضممنة معلومات حقيقية ضد الموظف الذي ثبت بحقه ما جاء فيها من مخالفات مسلكية .
ويستفاد مما سبق أن اكتشاف المخالفة المسلكية قد تتم بشكاوى الافراد يعلم فيها صاحب الشأن بوقوع مخالفة مسلكية(30)، كما يتم اكتشاف المخالفة المسلكية بواسطة الشكوى عن طريق وسائل الإعلام المختلفة وخصوصا الصحف والنشرات .
ويعد حق الشكوى مكفولا دستوريا لجميع المواطنين ولا سيما الموظفون منهم، سواء كان موضوع الشكوى من قبل الموظف أو أن، يكون موضوعها هو الإبلاغ عن مخالفات مسلكية علم بها الشاكي(31)، تنص المادة (17) من الدستور الاردني الصادر عام 1952 والمعمول به حاليا على حق الاردنيين في مخاطبة السلطات العامة فيما ينوبهم من امور شخصية أو فيما له صلة بالشؤون العامة بالكيفية والشروط التي يعينها القانون، ويتبين لنا من هذا النص الدستوري ثبوت الصفة الدستورية لكفالة الحق في الشكوى، علما بان المشرع الأردني لم يضع تعريفا للشكوى سواء في التشريع التأديبي أو في أي تشريع آخر. إلا أننا نستطيع القول بأن الشكوى هي تعبير عن عدم القبول من جانب احد المواطنين عن سلوك الموظف، هذا السلوك الذي قد يلحق ضررا شخصيا بالمواطنين .
اما بخصوص تحريك السلطة التأديبية المختصة للدعوى التأديبية بالإحالة إلى التحقيق بسبب الشكوى المقدمة لها، فهذه مسالة تدخل في نطاق السلطة التقديرية للجنة المختصة التي يجب عليها التأكد من صحة المعلومات الواردة في الشكوى، وذلك لما ينطوي عليه إحالة الموظف إلى التحقيق من مساس بسمعته لذلك يتوجب أن تحاط تحريك الإجراءات التأديبية بضمانات كافية تكفل عدم الإساءة للموظف، وعلى أن تخضع تلك الإجراءات لرقابة القضاء الإداري حتى لا يتعسف الرئيس الإداري أو ينحرف في استخدامه لتلك السلطة التقديرية(32). لذلك يتعين ان تحاط هذه الإجراءات بضمانات كافية تكفل عدم الإساءة للموظف، فقد تضمنت المادة (125) من نظام الخدمة المدنية لعام 1966 أحكاما تشريعية سليمة أغفلها نظام الخدمة المدنية الحالي، الصادر عام 2002، فقد نصت الفقرة (أ) من المادة (125) “إذا قدمت شكوى ضد موظف تتعلق بعمله أو سلوكه في تأدية وظائفه الرسمية، أو لمخالفته أي حكم من أحكام هذا النظام، فيجب ان ترفع الشكوى إلى الوزير المختص، وعلى الوزير ان يعلم الموظف خطيا بفحوى الشكوى المقدمة ضده وأن يطلب إليه الإجابة عليها خطيا في غظون مدة يحددها الوزير حسب ظروف القضية، على ان لا تزيد على الأسبوع، فإذا قصر الموظف بالإجابة عنها خطيا ضمن المدة المحددة أو إذا أجاب عنها وعجز عن تبرئة نفسه من التهم المنسوبة إليه بصورة يرتاح لها الوزير فيحال الموظف إلى المجلس التأديبي بقرار من الوزير مع اوراق القضية “.
يتضح لنا من هذا النص بأنه يتضمن ضمانات لصالح الموظف المشتكى عليه تتمثل في منحه فرصة للدفاع عن وجهة نظره، ومحاولة نفي أو تبرير التهم المنسوبة إليه، ولكن عدم إيرادا تلك الأحكام الواردة في النص السابق في نظام الخدمة الجديد لا يحول دون إعمالها من قبيل الملاءمات الإدارية .
ووفقا لنص المادة (125) فإن الشكوى تصلح كسبب لتحريك إرادة السلطة التأديبية الآمرة بالتحقيق في اصدار الأمر بإتخاذ الإجراءات التأديبية، إلا أنها لا تصلح في الوقت ذاته كسند لتوقيع الجزاء في مواجهة الموظف المتهم، إذ ان من شأن ذلك التعارض مع صراحة النصوص التشريعية التي تقضي في القوانين الوظيفية بعدم جواز توقيع اية عقوبة تأديبة على الموظف إلا بعد إجراء التحقيق معه، بغية التحقق من الوجود المادي للوقائع وجميع الادلة والبحث عن مرتكبيها(33) .
وأخيرا، فإن البرلمان يلعب دورا مهما في هذا الشأن من خلال اكتشافه للمخالفات المسلكية بكافة الوسائل المتاحة امامه(34) .
ثانيا:الرقابة الخارجية: يتم اكتشاف المخالفات المسلكية بواسطة أوجه الرقابة الخارجية، ومن ذلك الرقابة التي تمارس ماليا ومحاسبيا على أجهزة الإدارة بواسطة ديوان المحاسبة، فبموجب قانون ديوان المحاسبة رقم (28) لسنة 1952(35)، فإنه يتولى مراقبة واردات الدولة ونفقاتها وحساب الأمانات والسلفات والقروض، والتسويات، والمستودعات، وتقديم المشورة في المجالات المحاسبية الخاضعة لرقابة الديوان، إضافة إلى ذلك الرقابة على الاموال العامة، والتأكد من سلامة تطبيق التشريعات، والتثبت من أن القرارات، والاجراءات الادارية في الجهات الخاضعة لرقابة الديوان تتم وفقا للتشريعات النافذة(36) .وتشمل رقابة ديوان المحاسبة، الوزارات، والدوائر الحكومية، والمؤسسات الرسمية العامة،والمجالس البلدية،والجهات التي يقرر مجلس الوزراء تكليف الديوان بتدقيق حساباتها، ولرئيس ديوان المحاسبة أو اي موظف مفوض من قبله ان يقوم بالتدقيق في الحسابات، وبتعداد النقد، والطوابع والوثائق والمستندات، واللوازم في أية دائرة، كما يحق لرئيس الديوان أو اي موظف ان يطلع على المعاملات الحسابية والمالية في جميع الدوائر سواء المتعلقة بالواردات، أو النفقات وله حق الاتصال المباشر بالموظفين المناط إليهم امر هذه الحسابات ومراسلتهم(37)، كما نص القانون على ان لرئيس ديوان المحاسبة ان يقوم بالتدقيق بصورة تجعله يتأكد من أن الحسابات جارية وفقا للاصول الصحيحة، وان التدابير المتخذة للحيلولة دون التلاعب كافية فعالة، وله أن يوجه النظر إلى أي نقص يجده في التشريع المالي أو الإداري إذا تعلق الأمر بالأمور المالية، وأن يتثبت من ان القوانين والانظمة والتعليمات المتعلقة بالامور المالية والحسابات معمول بها بدقة، وان يلفت النظر إلى اي تقصير أو خطأ في تطبيقها وان يبين رأيه في كفاية الانظمة والتعليمات لتحقيق اغراض القوانين المالية، ولرئيس الديوان أن يطلع على جميع التقارير، والمعلومات الواردة من مفتشي الديوان سواء أكانوا مفتشين ماليين أو إداريين وله تعلق بالأمور المالية والإدارية، وعلى تقارير التحقيق في المخالفات التي لها مساس بالامور المالية والإدارية، وله أن يطلب تزويده بكل ما يريد الاطلاع عليه من معلومات، وايضاحات من جميع دوائر الحكومة مما له مساس بأعمال دائرته(38)، هذا ويجب على كافة الجهات الخاضعة لرقابة ديوان المحاسبة الإجابة على أي استيضاح يوجهه إليها الديوان ضمن نطاق مهامه، وإذا رفض أي شخص السماح لرئيس ديوان المحاسبة أو لاي موظف مفوض من قبله بإجراء التحقيق، والفحوص المصرح بها بمقتضى هذا القانون يحق للرئيس أو الموظف المذكور ان يشمع الصناديق، أو الخزائن، أو المحلات الأخرى التي توجد فيها الأشياء، والحسابات المراد فحصها وتدقيقها بالشمع الاحمر، وأن يختمها بالخاتم الرسمي، ولرئيس الديوان في حالة ممانعة ذلك الشخص ان يستدعي افراد الضابطة العدلية ويستعين بهم لتنفيذ هذه العملية، ولحراسة الأمكنة المختومة إلى أن يتم فضها بموافقة رئيس ديوان المحاسبة(39) .
وترتيبا على ذلك، فان الشخص الذي يرفض السماح لموظف ديوان المحاسبة بإجراء التدقيق والفحوص، يعاقب بمقتضى قانون العقوبات، وتتخذ بحقه الإجراءات التأديبية المنصوص عليها في انظمة الموظفين، وقد اسهمت رقابة ديوان المحاسبة في اكتشاف العديد من المخالفات الجزائية والمسلكية .
المطلب الثالث الجهة المختصة بتوجيه الأتهام التأديبي :
يتم تحريك الإجراءات التأديبية من السلطة الإدارية المختصة، وهي السلطة التي أنيط بها ممارسة صلاحية التأديب الوظيفي، وإيقاع العقوبات التأديبية، ويقصد بالتأديب الوظيفي: عملية تحديد المسؤولية التأديبية للموظف العام سواء بإثبات براءته، أو على العكس بإدانته، وإنزال إحدى العقوبات التأديبية المحددة قانونا عليه، بسبب ما ثبت بحقه من إربتكابه لمخالفة مسلكية متمثلة في أخلاله بأحد الواجبات، أو انتهاكه لأي من المحضورات المفروضة عليه، أو لخروجه بصفة عامة على مقتضيات الواجب الوظيفي في أداء أعماله أو لظهوره بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة(40)، ويقصد بالإجراءات التأديبية بصفة عامة مجموعة القواعد القانونية المدونة كانت ام عرفية التي تلتزم السلطة التأديبية المختصة بأعمالها، وهي بصدد الاضطلاع بتحديد المسؤولية التأديبية للموظف العام محل التأديب بإعتباره شاغلا لمركز قانوني تنظيمي في مواجهتها مستمد من القواعد القانونية العامة المطبقة عليه(41) .
أما الإجراءات التأديبية التي يجب اتخاذها قبل المحاكمة التأديبية فيقصد بها الإجراءات المتعين اتخاذها بصورة سابقة على اصدار الجزاء التأديبي مباشرة، وتشمل هذه الإجراءات كل من عملية التحقق من الثبوت المادي للافعال المؤثمة المنسوبة إلى الموظف محل المساءلة التأديبية، وجميع الأدلة على ارتكابها، وتحديد مرتكبيها، ومسؤولية كل منهم، لذلك يجب ان تتم عملية التحقيق بناء على إجراءات معينة دقيقة، يقصد منها الوصول بالتحقيق إلى هدفه وبلوغ غايته، وذلك بالوقوف على حقيقة الوقائع المنسوبة إلى الموظف المتهم(42). لذا على السلطة الإدارية مباشرة التحقيق قبل إيقاع العقوبة التأديبية إذ نصت المادة (147) من نظام الخدمة المدنية على انه ” للوزير أو لأي من الجهات المنصوص عليها في المادة (143) من هذا النظام تشكيل هيئة تحقيق في المخالفة التي ارتكبها الموظف قبل النظر فيها، وإصدار قرار بشأنها، ويشترط في ذلك أن لا يصدر المرجع المختص مثل ذلك القرار في اي مخالفة إلا بعد إجراء مثل ذلك التحقيق مع الموظف الذي اتهم بارتكابها …” ويكون ذلك في الحالتين التاليتين :
• إذا كان من رأي الجهة التي تنظر في المخالفة أن تفرض على الموظف الذي ارتكبها أيا من العقوبات التالية :
تنزيل الراتب، تنزيل الدرجة، الاستغناء عن الخدمة، العزل .
• إذا رأت تلك الجهة إحالة الموظف الذي ارتكب المخالفة إلى المجلس التأديبي .
ويستفاد من هذا النص بأن التحقيق أمر وجوبي فقط في الحالتين المشار إليهما آنفا، أما الجزاءات التأديبية البسيطة فإنه يمكن – طبقا لهذا النص – توقيعها دون حاجة إلى إجراء تحقيق إداري قبل إيقاعها(43).
ونرى أن هذا النص لا يحقق ضمانة فعليه للموظف بالنسبة للجزاءات التأديبية البسيطة، كما انه لا يوجد مبرر قانوني، أو عملي للتفرقة بين أنواع الجزاءات في إجراء التحقيق من عدمه، ولذا فقد قررت محكمة العدل العليا الاردنية” أنه لا يجوز للإرادة ان تعاقب الموظف بغير الإجراءات التأديبية(44)، وحتى في حالة غياب النص الصريح بوجوب اتباع إجراءات معينة، فإنه لا بد من أن توفر إجراءات التأديب ضمانة التحقيق بغية إظهار الحقيقة(45). وبالتأسيس على ما سبق، فإن التحقيق الإداري السليم، يتطلب بأن يكون صادرا عن جهة منحها القانون سلطة التحقيق، وان يكون صادرا من سلطة في الشكل الذي حدده القانون، إضافة إلى ذلك أن يكون الهدف من التحقيق هو البحث عن الأدلة التي تفيد في كشف الحقيقة، وآية ذلك أن القاعدة الجنائية العامة التي تفيد أن المتهم برئ حتى يثبت العكس مطبقة في المجال التأديبي، لذا يجب جمع المعلومات الضرورية لتقرير مدى ملائمة مباشرة ومتابعة الإجراءات التأديبية(46).
السلطة المختصة بالإحالة إلى التحقيق :
من المنطقي أن تكون السلطة المختصة بالتأديب هي السلطة المختصة بالإحالة إلى التحقيق فيما هو منسوب إلى الموظف(47). وتلعب السلطة الرئاسية التي يتبعها الموظف المتهم دورا كبيرا في مجال مباشرة التحقيق .
فقد بين المشرع الأردني كيفية تشكيل هيئة التحقيق في المخالفة التي ارتكبها الموظف قبل النظر فيها وإصدار قرار بشأنها، وتتمثل السلطة التأديبية الرئاسية وفق احكام المادتين (147)و(143) من نظام الخدمة المدنية الأردني لسنة 2002 في الوزير والأمين العام والرئيس المباشر للموظف والمدير .
ووفقا لأحكام المادة (148) من نظام الخدمة المدنية الحالي، فإن الدعوى التأديبية بحق الموظف تحال بقرار من الوزير، مرفقه بلائحة تتضمن وقائع المخالفة وتفاصيلها، وبمحاضر التحقيق الذي أجرى حول تلك المخالفة، وكافة البينات الخطية أو المادية في الدعوى .
وترتيبا على ذلك، فإنه يكون من الطبيعي أن يسند إلى السلطة الرئاسية بإعتبارها السلطة التأديبية المختصة الحق في اتخاذ الاجراء التمهيدي المعروف بالامر بالتحقيق فيما نسب للموظف في مخالفات والتحقيق من مدى ثبوتها من خلال الأدلة والقرائن المتوافرة بين يدي السلطة الرئاسية والامرة بالتحقيق، وبالتأسيس على ما سبق فإن سلامة الإجراء التمهيدي الخاص بالإحالة إلى التحقيق وصدور الأمر به على نحو مشروع يهدف إلى حماية المصلحة العامة للادارة كما يهدف إلى حماية المصلحة الخاصة للموظف محل المساءلة التأديبية .
السلطة المختصة بالتحقيق :
يجب على السلطات الرئاسية التحقيق مع الموظف المتهم بإعتبار ان ذلك يدخل في اختصاصها، كون التأديب في حد ذاته امتداد للسلطة التأديبية الرئاسية .
ووفقا لذلك فقد إتجه المشرع الأردني في نظام الخدمة المدنية النافذة المفعول إلى اعتناق الاسلوب الاداري في تنظيم السلطات الادارية حيث جعل جهة السلطة الرئاسية التي يتبعها الموظف هي الجهة التي تتولى التحقيق معه، وهذا الحق أي حق الإدارة في التحقيق مع موظفيها هو حق اصيل يؤكده نظام الخدمة المدنية مادة (147). ويستفاد من ذلك أن السلطة المختصة بالأمر بالتحقيق إنما تتمثل في شخص الوزير، ومن بعده من الرؤساء المباشرين حسب التسلسل الهرمي، والتدرج الوظيفي ضمن نطاق الهيكل التنظيمي للجهة الإدارية التي يتبع لها الموظف المتهم .
ويلاحظ أن المشرع الاردني قد اخذ بالاتجاه الإداري في التأديب، مدعما السلطات الرئاسية في التأديب وبخاصة الرؤساء المباشرين الذي منحهم هذا النظام سلطات تأديبية، هادفا من وراء ذلك تحقيق منطق الفاعلية في العمل الإداري، والسعي إلى تحقيق منطق الضمان للموظفين .
المبحث الثاني
الاستقلال بين الدعويين التأديبية والجزائية
من المقرر تشريعا وفقها وقضاء استقلال الدعوى التأديبية عن الدعوى الجزائية، ويبدو هذا الاستقلال واضحا في اختلاف النظام القانوني الذي يخضع له كل منهما، وهذا الاستقلال مؤكد في كتابات فقهاء القانون الاداري سواء في فرنسا أو مصر أو الاردن، كما تؤكده احكام القضاء الإداري والتأديبي المقارن، ويؤكد نظام الوظيفة العامة ان هدف الدعوى التأديبية هو إصلاح الموظف وردعه، إذ، يجب عليه ان يعمل على احترام واجباته الوظيفية وان يكون مخلصا في عمله في ان الهدف الرئيسي من إيقاع العقوبة الجزائية على مرتكب الجريمة الجزائية هو حماية المجتمع وأمنه واستقراره
المطلب الأول استقلال التحقيق التأديبي عن التحقيق الجزائي :
الأصل أن المسؤولية التأديبية مستقلة عن المسؤولية الجنائية التي قد يتعرض لها الموظف العام وهذا الاستقلال قائم حتى وإن كان هناك ثمة ارتباط بينهما، ومن ثم فإن قيام أي من المسؤوليتين التأديبية أو الجزائية لا يتعارض مع قيام الاخرى، ويشمل استقلال المسؤولية التأديبية وصف المخالفة المسلكية وتحديد أركانها كما يمتد إلى تحريك الإجراءات الخاصة بها، ومن المقرر، وكقاعدة عامة، أن الإجراءات الجنائية لا توقف الإجراءات التأديبية وترتيبا على ذلك يمكن تحريك إجراءات المسؤولين التأديبية والجزائية معا ضد الموظف العام في وقت واحد وعن فعل واحد دون أن يعد ذلك تعددا أو ازدواجا في المسؤولية، إذ إن لكل مسؤولية نطاقها الذي تعمل فيه، وبالرغم من هذا الاستقلال، فإن المشرع الاردني لم يقرر الاخذ بتحريك الإجراءات الجنائية والتأديبية معا وفي آن واحد وعن ذات الوقائع المادية(48) .
إن الخصائص التي تتميز بها الدعوى التأديبية تستوجب أن تباشر هذه الدعوى وفق معايير تختلف عن تلك المعايير، والأحكام التي تحكم الدعوى العمومية، فالسلطة التأديبية لا تتقيد في تكييفها للجرائم بقواعد وضوابط قانون العقوبات وإنما يتعين عليها ان تستخلص المخالفة المسلكية ووصفها من جماع الوقائع التي تشكل جريمة تأديبية على نحو ما هو مفهوم في المجال الإداري.
ويتمثل استقلال التحقيق التأديبي بالصلاحية التي تتمتع بها السلطة التأديبية حيث تملك صلاحية تقدير ملاءمة تحريك الإجراءات التأديبية من عدمها دون ان يكون لتحريك الإجراءات الجزائية اي تأثير على تقديرها الاداري وقرارها الصادر بهذا الصدد. لهذا فإن تحريك الدعوى المتعلقة بالجريمتين التأديبية والجزائية، لا يترتب عليه أن توقف إحداهما الأخرى، بل إنه يمكن أن تسير كل منهما في طريقها للوصول إلى غايتها المقصودة .
وبعبارة أخرى فأنه لا يترتب على التحقق في جريمة جزائية ضرورة وقف التحقيق في الجريمة التأديبية بل أن كل منهما تستقل بإجراءاتها الخاصة بها ويمكن السير بهما وفق الإجراءات الخاصة بكل منهما، ولكن ورغم ما سبق ذكره، فإن للسلطة التأديبية أن تقدر ظروف العمل الذي ارتكبه الموظف وملابساته وأن تقرر، بالتالي، ما إذا كان من الملائم ان تنتظر حتى يتم الفصل في القضية الجزائية أو ان تتخذ اجراءات التحقيق اللازمة وهذا الامر متروك لتقديرها وقناعتها .
وبناءً على ما تقدم، تستطيع السلطة التأديبية مباشرة التحقيق التأديبي دون الانتظار حتى يتم المباشرة في التحقيق الجزائي، إلا انه يجب على سلطة التحقيق التأديبي إعلام النيابة العامة بالعمل الذي إقترفه الموظف، إذا ما تبين لها أن الفعل أو الأفعال المنسوبة إليه تنطوي على جريمة جزائية، وقيام جهة الإدارة العامة بهذا العمل يؤدي إلى خلق نوع من التعاون بين سلطة التحقيق الإداري وسلطة التحقيق الجزائي، سيما وأنهما يهدفان إلى الوصول إلى أهداف مشتركة تتمثل في اكتشاف الحقيقة وتجنب أي تناقض وتعارض محتمل ضار بسمعة العدالة(49) .
وعليه فإنه يتعين على هيئات التحقيق الإداري ضرورة أبلاغ النيابة العامة بالواقعة أو الوقائع التي يمكن ان تشكل جريمة (50). كما يجب على النيابة العامة أن تقوم بإخبار الإدارة التي ينتمي إليها الموظف بخصوص الوقائع التي تنطوي على شق تأديبي وتشكل مخالفة مسلكية، أي انه من المفروض أن يكون هناك تعاون بين سلطات التأديب وسلطات القضاء الجزائي، وتصدر النيابة العامة قرارها بأنه لا وجه لإقامة الدعوى إذا تبين لها ان الافعال التي ارتكبها الموظف هي واقعية وصحيحهة وانها لا تشكل جريمة (جناية أو جنحة أو مخالفة) أو في حالة عدم معرفة الفاعل أو في حالة عدم كفاية الأدلة .
Abstract
The Disciplinary crime is the base for every study in the field of Disciplinary punishment. Both Criminal and Disciplinary Crimes are based on the principle of default in the meaning that the employee has committed actions or abstained from doing actions representing a breach of the right doing requested by the society as will as breach of the Public duties which the official is required to carry out. The study includes the Nature of the Disciplinary Action in the first section. Then after the Independence of both cases criminal and Disciplinary. The Third section deals with the effect of the criminal sentence on the Disciplinary Action.
المقدمـة
ماهية الموضوع :
قد يرتكب الموظف العام ذنباً إدارياً، وحينئذ قد يخضع لإجراءات التحقيق التأديبي، وتفرض عليه السلطة المختصة الجزاء التأديبي المناسب في حال إدانته، إلا أن هذا الذنب الإداري، أو المخالفة المسلكية قد تشكل أيضا مخالفة جزائية ينص عليها قانون العقوبات، وفي هذه الحالة تظهر إشكالية العلاقة بين الدعوى التأديبية والدعوى الجزائية.
أهمية الموضوع :
على الرغم من أن بعض الفقهاء، قد تناولو موضوع العلاقة بين الدعوى التأديبية والدعوى الجزائية بالبحث والتمحيص إلا أن هذا الموضوع ما زال يثير الكثير من المسائل التي تحتاج إلى تأصيل ومناقشة ومحاولة إيجاد حلول لها، وهذا ليس استنتاج من عندنا ولكن المنازعات التي طرحت على القضاء هي التي تؤكد هذا الاستنتاج وتدعمه، مما يدعو الباحث لدراسة هذا الموضوع .
لا شك في ان الموضوع يتعلق بصالح المرفق العام، وإذا ما كان ثمة وجه جزائي في المخالفة المسلكية، فإنه ليس من المنطق إبقاء موظف ارتكب جرما يشين سمعته ويضر بسمعة هذا المرفق على رأس عمله في هذا المرفق. وعلاوة على هذا، فإن هذا الموضوع يتعلق بضمانات قانونية وقضائية للموظف المتهم أثناء إحالته للجهة التأديبية المختصة، ولو افترضنا ان الموظف المتهم قد أحيل إلى القضاء المختص، وحكم هذا القضاء بإنعدام الوجود المادي للواقعة التي يحاكم بها الموظف، وأنه وجه لإدانته وقرر الحكم ببراءته، فما هو اثر البراءة على وضعه الوظيفي ؟ هذه المسائل اخرى غيرها هي ما سنتناوله في هذا البحث .
خطة البحث :
تقتضي طبيعة هذا الموضوع تقسيمه إلى ثلاثة مباحث، يتناول في الأول منها ماهية الدعوى التأديبية من حيث تعريفها ووسائل اكتشافها وجهة الاتهام فيها، أما المبحث الثاني – فيدور حول استقلال الدعوى التأديبية عن الدعوى الجزائية في مجال التحقيق، وتأثير التحقيق الجزائي على التحقيق التأديبي، أما المبحث الأخير فسيخصص لموضوع حجية الحكم الجزائي واثره في التأديب الوظيفي .
المبحث الاول
ماهية الدعوى التأديبية
إن المخالفة التأديبية تقوم أساساً على أركان، قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته ومقتضياتها وكرامتها، ولا يقصد بواجبات الوظيفة تلك المنصوص عليها في القوانين والانظمة المختلفة إدارية، كانت ام غير إدارية فقط، بل يقصد بها ايضا الواجبات التي يقتضيها حسن انتظام، واطراد العمل في المرافق العامة ولو لم ينص عليها، وبمعنى آخر : ” أن الأفعال المكونة للمخالفة المسلكية مردها بوجه عام إلى الاخلال بواجبات الوظيفة “.
ويطلق الفقه والقضاء تسميات مختلفة على الخطأ التأديبي كالجريمة التأديبية(1)والمخالفة التأديبية(2)، والذنب الاداري (3)، كما استخدمت محكمة العدل العليا الأردنية في بعض أحكامها اصطلاح المخالفة المسلكية (4). وواضح أن هذه المصطلحات جميعاً تعبر عن معنى واحد، هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو خروجه عن مقتضياتها، أو ارتكابه عملاً من الأعمال المحرمة عليه بموجب القوانين والأنظمة أو أوامر الرؤساء في حدود القانون .
ويستفاد مما سبق ذكره بأن المسؤولية التأديبية للموظف تقوم على عنصرين : الاول ضرورة توافر الصفة الوظيفية للموظف المراد تأديبه، والثاني المخالفة التأديبية.
فالجريمة التأديبية لها ذاتيتها التي تستقل بها عن صور الجرائم الاخرى، فهي تنهض على أركان ومقومات وأسس وسمات غير تلك التي تنهض عليها الجرائم الأخرى، كالجريمة الجنائية، وبناءً على ذلك فإن تحديد ماهية هذه الجريمة، يتطلب منا بيان المقصود منها، والتعرض لسماتها الأساسية.
هذا ولم يعرّف المشرع الأردني، والمشرع المصري المخالفة التأديبية، ولم يحددا المقصود منها بالرغم من النص على الكثير من قواعدها وأحكامها، إلا أن الفقه، والقضاء تصدى لتعريفها، وأرسى العديد من المبادئ والأحكام، والأسس المنظمة لها.
فعلى صعيد الفقه، فإن استاذنا الدكتور سليمان محمد الطماوي يعرفها بأنها”كل فعل، أو امتناع يرتكبه العامل يجافي واجبات منصبه”(5) .
ويعرفها الدكتور طعيمة الجرف : بأن الجريمة التأديبية تعني “أن يأتي الموظف عملاً يكون من شأنه الإخلال بمقتضيات الوظيفة أو لا يتفق مع مركزه كموظف عام “(6) .
وعلى صعيد القضاء، فقد تعرضت محكمة العدل العليا الأردنية لتعريف المخالفة التأديبية بمناسبة تصديها لدعاوى التأديب، فقد أطلق القضاء الإداري في الأردن تسمية المخالفة المسلكية على المخالفة التأديبية، واعتبر قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته أو مخالفة صاحب المهنة لقوانينه الخاصة(7) .
أما من جانبنا فإننا نميل إلى تعريف المخالفة التأديبية بأنها: ” كل فعل يأتيه الموظف العام مخالفاً بذلك أحكام القانون، أو مقتضيات واجبات وظيفته المنصوص عليها، أو غير المنصوص عليها والتي لا تتفق مع حسن سير المرفق العام، وسواء أرتكب الفعل داخل الوظيفة أو خارجها “.
ومن السمات الرئيسية للجريمة التأديبية، ارتباطها اللصيق بالوظيفة أو المهنة، فلكل صنف من أصناف الوظائف مجموعة من الواجبات يتعين على شاغلها الوفاء بها كما أن يوجد محظورات يتعين عليه تجنبها( .
ومن السمات الرئيسية للجريمة التأديبية هو عدم خضوعها لقاعدة ” لا جريمة إلا بنص ” فالجرائم الجزائية محددة على سبيل الحصر مقدماً، أما المخالفة التأديبية فإنها غير محددة، ولا تنطبق عليها هذه القاعدة، وعليه فإن المشرع قد قام بتحديد العقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على الموظف المذنب تأديبيا وعلى نحو لا يتيح لسلطة التأديب الخروج عن العقوبات المنصوص عليها، إلا أنه لم يفعل ذلك في مجال التجريم، حيث ذكر أهم الواجبات والمحظورات التي تشكل مخالفتها جرما تأديبيا وترك لسلطة التأديب إضافة وتجريم أنماط أخرى من السلوك، شريطة أن تلتزم بفرض أحد العقوبات التأديبية المبينة حصراً في التشريع .
هذا وسنقوم بتناول هذه الموضوعات في ثلاثة مطالب نخصص أولها للتعريف بالمخالفة المسكلية، وثانيها لكيفية اكتشاف المخالفة المسلكية، أما المطلب الثالث فسنخفصصه للجهة المختصة بتوجيه الاتهام التأديبي.
المطلب الأول تعريف المخالفة المسلكية(9)
لقد أغفلت غالبية التشريعات التي نتناولها بالبحث تعريف المخالفات المسلكية، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة هذه المخالفة المسلكية التي لا يمكن حصرها لإعتبارات تكمن في طبيعة الوظيفة ذاتها، وذلك عكس الجريمة الجنائية، ففي فرنسا خلت قوانين الخدمة المدنية من أي تعريف للمخالفة المسلكية، فقد نصّت المادة (29) من القانون الفرنسي رقم (83/834) الصادر في 13/7/1983 الذي يشكل القسم الأول من نظام الموظفين العموميين في فرنسا ” كل خطأ يرتكبه الموظف في أداء أو بمناسبة ممارسة مهمّات وظيفته يعّرضه لعقوبة تأديبية دون أي مساس بالعقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات(10)، وهذا النص هو ذاته الوارد في المادة (11) من النظام القانوني العام للموظفين الصادر في فرنسا في 4فبراير 1954م(11) ،ويستخلص من تلك النصوص أن المخالفة المسلكية يجب أن ترتبط بممارسة أداء مهمات الوظيفة العامة، كما أن هذه النصوص لا تُعد تعريفاً قانونياً للمخالفة المسلكية، ولقد سلك المشرع الأردني مسلك المشرع الفرنسي، فقد حرص على ألا يضع تعريفاً مانعاً جامعاً لهذه المخالفة، كما انه لم يضع إطارا مغلقا لمفهوم المخالفة المسلكية، حتى لا يسري مبدأ لا جريمة إلا بنص، وهو المبدأ المعروف في مجال الجريمة الجنائية، فقد اكتفى المشرع الأردني في هذا المجال بأن نص على بعض الواجبات التي يتعين على الموظف القيام بها، كما أورد بعض المحظورات التي يتعين عليه أن يمتنع عن إتيانها، فإذا ما قصر في أداء واجب عليه أو ارتكب فعلاً محظوراً عليه إتيانه، فإنه يقع تحت طائلة المسؤولية التأديبية، وقد حرص المشرع الأردني في المادة (65) من نظام الخدمة المدنية رقم (55) لسنة 2002(12) على النص على مجموعة من الواجبات التي يتعين على الموظف القيام بها، كما نص المادة (66) من نفس النظام على مجموعة من الأفعال المحظورة على الموظف، إذ قررت كل موظف يخالف المحظورات المنصوص عليها في هذه المادة، يعاقب تأديبيا، ويستخلص من تلك المواد بأن المشرع الأردني لم يعمل على حصر واجبات الموظف والتزاماته، بل أورد بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وذلك لأن بعضا من هذه الواجبات والالتزامات قد جاء ضمن عبارات عامة لا يمكن ضبط الأفعال التي تقع تحت نطاقها، ولذلك فإنه يمكن القول : أن النصوص القانونية المتعلقة بالتأديب الوظيفي لا تورد إلا بعض امثلة للسلوك الخاطئ الذي يحاسب عليه الموظف، إلا أن هذه النصوص لا تضع قائمة كاملة بكامل الافعال التي يعاقب عليها الموظف تأديبيا(13) .
يتضح لنا مما سبيق أن مبدأ ” لا جريمة إلا نص ” المعروف في النظام الجنائي لا يعرفه النظام التأديبي في الاردن، إذ لا نجد حصراً أو تحديداً للجرائم التي يرتكبها الموظف العام، كما هو الحال في بعض الدول(14).
ولقد ذهب القضاء الإداري بشكل عام، والذي لا ينكره دوره في خلق المبادئ في مجال القانون الإداري إلى تعريف المخالفة المسلكية، وحرص على إبراز خصائصها، وعناصرها وبنيت أحكامه أن سبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته، أو اتيانه عملاً من الأعمال المحرمة عليه، أو المحظورة عليه، أما القضاء الإداري الأردني المتمثل بمحكمة العدل العليا فإنه لم يورد تعريفا صريحا للمخالفة المسلكية، ولم تتعرض له محكمة العدل العليا بصورة مباشرة، وإنما أشارت إليه وهي في صدد بيان استقلال المخالفة المسلكية عن الجريمة الجزائية حيث قالتإن المخالفة التأديبية، هي تهمة قائمة بذاتها مستقلة عن التهمة الجزائية، قوامها مخالفة الشخص لواجبات وظيفته أو مهنته ومقتضياتها وكرامتها، بينما التهمة الجزائية هي خروج المتهم على المجتمع فيما تنهي عنه القوانين الجزائية، أو تأمر به، ويبقى هذا الاستقلال قائما حتى لو كان ثمة ارتباط بين التهمتين التأديبية، والجزائية )(15).
وقالت: أيضاَ: (إن المخالفة المسلكية التي يرتكبها الموظف قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته، وهي مستقلة عن التهمة الجزائية التي أدين بها الموظف … الخ )(16) .
ويلاحظ مما تقدم بأن المشرع في غالبية الدول لم يضع تعريفاَ للمخالفة المسلكية، بل اكتفى بإيراد أمثلة لهذه المخالفة، مما دعا الفقه الإداري إلى التصدي لتعريف المخالفة المسلكية، ومن بين هذه التعريفات، تعريف الدكتور عبد الفتاح حسن الذي عرف المخالفة المسلكية في نطاق الوظيفة العامة بأنها ” كل تصرف يصدر عن العامل أثناء أداء الوظيفة، أو خارجها يؤثر فيها بصورة قد تحول دون قيام المرفق بنشاطه على الوجه الاكمل، وذلك متى ارتكب هذه التصرف عن إرادة آثمة “(17). وعرفها الدكتور محمد جودت الملط بأنها ” إخلال بواجبات الوظيفة إيجابا أو سلبا، ولا يقصد بواجبات الوظيفة الواجبات المنصوص عليها، بل يقصد بها أيضا الواجبات التي يقتضيها حسن النظام وإطراد العمل في المرافق العامة ولو لم ينص عليها “(18). كما عرفها الأستاذ الدكتور سليمان محمد الطماوي بأنها ” كل فعل أو امتناع يرتكبه العامل ويجافي واجبات منصبه “(19) .
وفي الفقه الفرنسي فإن الفقيه سالون يعرف المخالفة المسلكية بأنها “أعمال إيجابية أو سلبية تشكل مخالفة للواجبات التي تفرضها الوظيفة التي يمارسها الموظف”(20)، ويعرفها الفقيه دليبريه بأنها ” تصرف أو إهمال ينسب لمرتكبه، ويعاقب عليه القانون بعقوبة تأديبية (21)، كما يعرفها الفقيه كاترين بأنها ” الخطأ المرتبط بالوظيفة “(22) .
هذا وقد أسهم شُرّاح القانون الإداري الأردني في تعريف المخالفة المسلكية فذهب بعضهم إلى تعريف المخالفة المسلكية بأنها : ” فعل إيجابي أو سلبي يرتكبه الموظف مخالفة للواجبات الخاصة التي تفرضها عليه صفته الوظيفية “(23). أما الدكتور منصور العتوم فيعرف المخالفة المسلكية بأنها:”فعل أو امتناع إرادي يخالف واجبات الوظيفة، أو مقتضياتها، ويصدر ممن تتوفر فيه صفة الموظف العام “(24) .
وبعد استعراضنا لمحاولات الفقه والقضاء الإدرايين تعريف وتحديد المخالفة المسلكية، فإنه يظهر لنا بوضوح أنه من الصعب أن نضع تعريفاً مانعاً جامعاً للمخالفة المسلكية خاصة، وأن القضاء الإداري صاحب الحق في تقدير وجود المخالفة المسلكية، وذلك إذا ما كانت المخالفة تشكل مساساً بمقتضيات الوظيفة أم لا، وهذا المعيار هو بلا شك معيار نسبي في حد ذاته قد يختلف من وظيفة إلى أخرى، أو من سلطة تأديبية إلى اخرى .
وعلى هذا الأساس فإنني أميل إلى تعريف المخالفة المسلكية بأنها ” إخلال شخص ينتمي إلى مرفق عام بالواجبات التي يلقيها على عاتقه انماؤه إليها “.
ومن خلال هذه الفهم فإننا نلاحظ اتساع المخالفات المسلكية وعدم تحديدها، وهو الأمر الذي يتطلب وجود رقابة قضائية على سلطات التأديب وهذه الرقابة تعد اكبر ضمانة لحماية الموظف العام في مواجهة صلاحية الإدارة الواسعة في تكييف الأفعال التي تشكل مخالفات مسلكية، ولا سيما أن المخالفة المسلكية يدخل في تكوينها إعتبارات مادية، وإعتبارات أدبية(25). فقد قضت محكمة العدل العليا بأنه “تبين من القرار المطعون به أن الذي ثبت ضد المستدعي هو أن كمية الجميد والسمن التي اخذها من المدعو … لم يأخذها على سبيل الرشوة وإنما ابتاعها منه مقابل ثمن تعهد بدفعه في نهاية الشهر الذي تم به الشراء”. وعلى ذلك فإن ما توصل إليه المجلس التأديبي من أن هذه الواقعة تشكل استغلالاً للوظيفة بسبب أنه يوجد للبائع قضايا إجرائية مطروحة للتنفيذ بدائرة الإجراء التي يشرف عليها المستدعي لا يتفق وأحكام القانون؛ وإذ أن مجرد كون البائع يراجع دائرة الإجراء في قضايا خاصة به لا يجعل الشراء فيه إستغلالاً للوظيفة ما دام لم يدع ِ بأن الثمن كان أقل من السعر الرائج “(26).
أما من وجهة نظرنا فإننا نرى بأن ما ذهبت إليه المحكمة الموقرة غير دقيق، إذ إن من واجبات الموظف ألا يقيم علاقة من أي نوع كان مع أي مراجعة لدائرته فشراء هذا الموظف من المراجع هو في حد ذاته موضع شبهة ، إذ إن المُراجع، وعلى الأغلب، سيحابي الموظف بالثمن، تزلفاً له وبقصد إنجاز أعماله التي يراجع الموظف بشأنها .
المطلب الثاني كيفية اكتشاف المخالفات المسلكية :
يهدف التأديب إلى انضباط سير المرافق العامة بالدولة، ودوام استمرارها وانتظامها، فهذه المرافق تضم عدداً كبيرا من العاملين الذين يسيرون هذه المرافق وينفذون سياستها في مختلف المجالات، ولا تستطيع جهة الإدارة أن تؤدي مسؤليتها على الوجه الأكمل، إلا إذا كان بمقدورها مواجهة ما قد يحدث من خلل اثناء سير العمل، وبالأسلوب المناسب، لذا فإن التأديب يهدف إلى حسن سير المرافق العامة، وانتظام سير العمل بها وهذا الهدف يجعل رسالة التأديب مختلفة عن رسالة أي نظام عقابي آخر، فتحقيق الفاعلية للادارة لا يعني مجرد الردع الذي هو هدف أساسي من فرض العقوبة في قانون العقوبات، فالنظام التأديبي السليم لا يكتفي بالتأكيد من قيام المخالفة المسلكية لعقاب مرتكبها، وإنما يتعدى ذلك إلى بحث الأسباب التي جعلت ارتكاب المخالفة امرا ممكنا بهدف إعادة النظر في التشريع وإصلاح الخلل في التنظيم الإداري، هذا ويثور التساؤل هنا عن الاسباب الكامنة وراء اصدار سلطة التأديب اوامرها بالتحقيق، وما إذا كانت تلك الأسباب تتمثل في وجود شكوى، أو طلب إذن يتم بناءً عليه اصدار قرارها بإجراء التحقيق مع الموظف محل المساءلة التأديبية .
ومن البديهي، فإن تأديب الموظف يبدأ بقرار إحالته إلى التحقيق أمام الجهة المختصة، حيث سنتولى بيان الجهة المختصة بعملية الإحالة إلى التحقيق، ثم نتطرق إلى البحث في الأسباب الكامنة وراء تحريك السلطة المختصة للقضية التأديبية واصدارها لقرارها، الآمر بإجراء التحقيق مع الموظف الذي ارتكب المخالفة المسلكية وهذه الأسباب تكمن في الشكوى المقدمة وإمكانية ارتكاب الموظف لمخالفة مسلكية. وقد يتم اكتشاف المخالفة المسلكية نتيجة إعمال أوجه الرقابة الإرادية المختلفة ومن بينها أسلوب التدقيق الإداري التلقائي (27)، والاشراف الدقيق والمراجعة اليقضة والمتابعة الدائمة، وقد يتم اكتشاف المخالفة المسلكية بوسائل الإعلام، كما قد يتم اكتشاف العديد من المخالفات المسلكية وارتكابها بعدة طرق مختلفة كالرقابة الداخلية أو الخارجية كما يمكن ان ينهض الثبوت المادي للمخالفات التأديبية على صلاحيات السلطة الرئاسية في الرقابة على العاملين وسنتولى شرح طرق اكتشاف المخالفات المسلكية على النحو التالي :
أولا ً: الشكوى: من خلال دراستنا لموضوع السلطة التأديبية لم نجد فيها تعريفاً محدداً للشكوى في المجال التأديبي، إلا أن بعض الفقه عرفها بأنها “التعبير عن إرادة الشخص القانوني طبيعياً كان ام معنوياً بأن التضرر من مخالفة أو خرق للقانون أحدث نوعا من الاضرار سواء بمقدم الشكوى نفسه، أو بغيره من الاشخاص”(28). هذا وقد نص الاعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر بتاريخ 26 آب 1789 على حق المجتمع في محاسبة أي موظف عام عما يمكن أن يرتكبه من أخطاء في ممارسة مهامه الوظيفية(29) .
ويجدر التنويه إلى أن الشكوى ليست دعوى قضائية، لذا لا يشترط فيها أن تصدر عن صاحب المصلحة فيها، وإنما يجب أن تكون متضممنة معلومات حقيقية ضد الموظف الذي ثبت بحقه ما جاء فيها من مخالفات مسلكية .
ويستفاد مما سبق أن اكتشاف المخالفة المسلكية قد تتم بشكاوى الافراد يعلم فيها صاحب الشأن بوقوع مخالفة مسلكية(30)، كما يتم اكتشاف المخالفة المسلكية بواسطة الشكوى عن طريق وسائل الإعلام المختلفة وخصوصا الصحف والنشرات .
ويعد حق الشكوى مكفولا دستوريا لجميع المواطنين ولا سيما الموظفون منهم، سواء كان موضوع الشكوى من قبل الموظف أو أن، يكون موضوعها هو الإبلاغ عن مخالفات مسلكية علم بها الشاكي(31)، تنص المادة (17) من الدستور الاردني الصادر عام 1952 والمعمول به حاليا على حق الاردنيين في مخاطبة السلطات العامة فيما ينوبهم من امور شخصية أو فيما له صلة بالشؤون العامة بالكيفية والشروط التي يعينها القانون، ويتبين لنا من هذا النص الدستوري ثبوت الصفة الدستورية لكفالة الحق في الشكوى، علما بان المشرع الأردني لم يضع تعريفا للشكوى سواء في التشريع التأديبي أو في أي تشريع آخر. إلا أننا نستطيع القول بأن الشكوى هي تعبير عن عدم القبول من جانب احد المواطنين عن سلوك الموظف، هذا السلوك الذي قد يلحق ضررا شخصيا بالمواطنين .
اما بخصوص تحريك السلطة التأديبية المختصة للدعوى التأديبية بالإحالة إلى التحقيق بسبب الشكوى المقدمة لها، فهذه مسالة تدخل في نطاق السلطة التقديرية للجنة المختصة التي يجب عليها التأكد من صحة المعلومات الواردة في الشكوى، وذلك لما ينطوي عليه إحالة الموظف إلى التحقيق من مساس بسمعته لذلك يتوجب أن تحاط تحريك الإجراءات التأديبية بضمانات كافية تكفل عدم الإساءة للموظف، وعلى أن تخضع تلك الإجراءات لرقابة القضاء الإداري حتى لا يتعسف الرئيس الإداري أو ينحرف في استخدامه لتلك السلطة التقديرية(32). لذلك يتعين ان تحاط هذه الإجراءات بضمانات كافية تكفل عدم الإساءة للموظف، فقد تضمنت المادة (125) من نظام الخدمة المدنية لعام 1966 أحكاما تشريعية سليمة أغفلها نظام الخدمة المدنية الحالي، الصادر عام 2002، فقد نصت الفقرة (أ) من المادة (125) “إذا قدمت شكوى ضد موظف تتعلق بعمله أو سلوكه في تأدية وظائفه الرسمية، أو لمخالفته أي حكم من أحكام هذا النظام، فيجب ان ترفع الشكوى إلى الوزير المختص، وعلى الوزير ان يعلم الموظف خطيا بفحوى الشكوى المقدمة ضده وأن يطلب إليه الإجابة عليها خطيا في غظون مدة يحددها الوزير حسب ظروف القضية، على ان لا تزيد على الأسبوع، فإذا قصر الموظف بالإجابة عنها خطيا ضمن المدة المحددة أو إذا أجاب عنها وعجز عن تبرئة نفسه من التهم المنسوبة إليه بصورة يرتاح لها الوزير فيحال الموظف إلى المجلس التأديبي بقرار من الوزير مع اوراق القضية “.
يتضح لنا من هذا النص بأنه يتضمن ضمانات لصالح الموظف المشتكى عليه تتمثل في منحه فرصة للدفاع عن وجهة نظره، ومحاولة نفي أو تبرير التهم المنسوبة إليه، ولكن عدم إيرادا تلك الأحكام الواردة في النص السابق في نظام الخدمة الجديد لا يحول دون إعمالها من قبيل الملاءمات الإدارية .
ووفقا لنص المادة (125) فإن الشكوى تصلح كسبب لتحريك إرادة السلطة التأديبية الآمرة بالتحقيق في اصدار الأمر بإتخاذ الإجراءات التأديبية، إلا أنها لا تصلح في الوقت ذاته كسند لتوقيع الجزاء في مواجهة الموظف المتهم، إذ ان من شأن ذلك التعارض مع صراحة النصوص التشريعية التي تقضي في القوانين الوظيفية بعدم جواز توقيع اية عقوبة تأديبة على الموظف إلا بعد إجراء التحقيق معه، بغية التحقق من الوجود المادي للوقائع وجميع الادلة والبحث عن مرتكبيها(33) .
وأخيرا، فإن البرلمان يلعب دورا مهما في هذا الشأن من خلال اكتشافه للمخالفات المسلكية بكافة الوسائل المتاحة امامه(34) .
ثانيا:الرقابة الخارجية: يتم اكتشاف المخالفات المسلكية بواسطة أوجه الرقابة الخارجية، ومن ذلك الرقابة التي تمارس ماليا ومحاسبيا على أجهزة الإدارة بواسطة ديوان المحاسبة، فبموجب قانون ديوان المحاسبة رقم (28) لسنة 1952(35)، فإنه يتولى مراقبة واردات الدولة ونفقاتها وحساب الأمانات والسلفات والقروض، والتسويات، والمستودعات، وتقديم المشورة في المجالات المحاسبية الخاضعة لرقابة الديوان، إضافة إلى ذلك الرقابة على الاموال العامة، والتأكد من سلامة تطبيق التشريعات، والتثبت من أن القرارات، والاجراءات الادارية في الجهات الخاضعة لرقابة الديوان تتم وفقا للتشريعات النافذة(36) .وتشمل رقابة ديوان المحاسبة، الوزارات، والدوائر الحكومية، والمؤسسات الرسمية العامة،والمجالس البلدية،والجهات التي يقرر مجلس الوزراء تكليف الديوان بتدقيق حساباتها، ولرئيس ديوان المحاسبة أو اي موظف مفوض من قبله ان يقوم بالتدقيق في الحسابات، وبتعداد النقد، والطوابع والوثائق والمستندات، واللوازم في أية دائرة، كما يحق لرئيس الديوان أو اي موظف ان يطلع على المعاملات الحسابية والمالية في جميع الدوائر سواء المتعلقة بالواردات، أو النفقات وله حق الاتصال المباشر بالموظفين المناط إليهم امر هذه الحسابات ومراسلتهم(37)، كما نص القانون على ان لرئيس ديوان المحاسبة ان يقوم بالتدقيق بصورة تجعله يتأكد من أن الحسابات جارية وفقا للاصول الصحيحة، وان التدابير المتخذة للحيلولة دون التلاعب كافية فعالة، وله أن يوجه النظر إلى أي نقص يجده في التشريع المالي أو الإداري إذا تعلق الأمر بالأمور المالية، وأن يتثبت من ان القوانين والانظمة والتعليمات المتعلقة بالامور المالية والحسابات معمول بها بدقة، وان يلفت النظر إلى اي تقصير أو خطأ في تطبيقها وان يبين رأيه في كفاية الانظمة والتعليمات لتحقيق اغراض القوانين المالية، ولرئيس الديوان أن يطلع على جميع التقارير، والمعلومات الواردة من مفتشي الديوان سواء أكانوا مفتشين ماليين أو إداريين وله تعلق بالأمور المالية والإدارية، وعلى تقارير التحقيق في المخالفات التي لها مساس بالامور المالية والإدارية، وله أن يطلب تزويده بكل ما يريد الاطلاع عليه من معلومات، وايضاحات من جميع دوائر الحكومة مما له مساس بأعمال دائرته(38)، هذا ويجب على كافة الجهات الخاضعة لرقابة ديوان المحاسبة الإجابة على أي استيضاح يوجهه إليها الديوان ضمن نطاق مهامه، وإذا رفض أي شخص السماح لرئيس ديوان المحاسبة أو لاي موظف مفوض من قبله بإجراء التحقيق، والفحوص المصرح بها بمقتضى هذا القانون يحق للرئيس أو الموظف المذكور ان يشمع الصناديق، أو الخزائن، أو المحلات الأخرى التي توجد فيها الأشياء، والحسابات المراد فحصها وتدقيقها بالشمع الاحمر، وأن يختمها بالخاتم الرسمي، ولرئيس الديوان في حالة ممانعة ذلك الشخص ان يستدعي افراد الضابطة العدلية ويستعين بهم لتنفيذ هذه العملية، ولحراسة الأمكنة المختومة إلى أن يتم فضها بموافقة رئيس ديوان المحاسبة(39) .
وترتيبا على ذلك، فان الشخص الذي يرفض السماح لموظف ديوان المحاسبة بإجراء التدقيق والفحوص، يعاقب بمقتضى قانون العقوبات، وتتخذ بحقه الإجراءات التأديبية المنصوص عليها في انظمة الموظفين، وقد اسهمت رقابة ديوان المحاسبة في اكتشاف العديد من المخالفات الجزائية والمسلكية .
المطلب الثالث الجهة المختصة بتوجيه الأتهام التأديبي :
يتم تحريك الإجراءات التأديبية من السلطة الإدارية المختصة، وهي السلطة التي أنيط بها ممارسة صلاحية التأديب الوظيفي، وإيقاع العقوبات التأديبية، ويقصد بالتأديب الوظيفي: عملية تحديد المسؤولية التأديبية للموظف العام سواء بإثبات براءته، أو على العكس بإدانته، وإنزال إحدى العقوبات التأديبية المحددة قانونا عليه، بسبب ما ثبت بحقه من إربتكابه لمخالفة مسلكية متمثلة في أخلاله بأحد الواجبات، أو انتهاكه لأي من المحضورات المفروضة عليه، أو لخروجه بصفة عامة على مقتضيات الواجب الوظيفي في أداء أعماله أو لظهوره بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة(40)، ويقصد بالإجراءات التأديبية بصفة عامة مجموعة القواعد القانونية المدونة كانت ام عرفية التي تلتزم السلطة التأديبية المختصة بأعمالها، وهي بصدد الاضطلاع بتحديد المسؤولية التأديبية للموظف العام محل التأديب بإعتباره شاغلا لمركز قانوني تنظيمي في مواجهتها مستمد من القواعد القانونية العامة المطبقة عليه(41) .
أما الإجراءات التأديبية التي يجب اتخاذها قبل المحاكمة التأديبية فيقصد بها الإجراءات المتعين اتخاذها بصورة سابقة على اصدار الجزاء التأديبي مباشرة، وتشمل هذه الإجراءات كل من عملية التحقق من الثبوت المادي للافعال المؤثمة المنسوبة إلى الموظف محل المساءلة التأديبية، وجميع الأدلة على ارتكابها، وتحديد مرتكبيها، ومسؤولية كل منهم، لذلك يجب ان تتم عملية التحقيق بناء على إجراءات معينة دقيقة، يقصد منها الوصول بالتحقيق إلى هدفه وبلوغ غايته، وذلك بالوقوف على حقيقة الوقائع المنسوبة إلى الموظف المتهم(42). لذا على السلطة الإدارية مباشرة التحقيق قبل إيقاع العقوبة التأديبية إذ نصت المادة (147) من نظام الخدمة المدنية على انه ” للوزير أو لأي من الجهات المنصوص عليها في المادة (143) من هذا النظام تشكيل هيئة تحقيق في المخالفة التي ارتكبها الموظف قبل النظر فيها، وإصدار قرار بشأنها، ويشترط في ذلك أن لا يصدر المرجع المختص مثل ذلك القرار في اي مخالفة إلا بعد إجراء مثل ذلك التحقيق مع الموظف الذي اتهم بارتكابها …” ويكون ذلك في الحالتين التاليتين :
• إذا كان من رأي الجهة التي تنظر في المخالفة أن تفرض على الموظف الذي ارتكبها أيا من العقوبات التالية :
تنزيل الراتب، تنزيل الدرجة، الاستغناء عن الخدمة، العزل .
• إذا رأت تلك الجهة إحالة الموظف الذي ارتكب المخالفة إلى المجلس التأديبي .
ويستفاد من هذا النص بأن التحقيق أمر وجوبي فقط في الحالتين المشار إليهما آنفا، أما الجزاءات التأديبية البسيطة فإنه يمكن – طبقا لهذا النص – توقيعها دون حاجة إلى إجراء تحقيق إداري قبل إيقاعها(43).
ونرى أن هذا النص لا يحقق ضمانة فعليه للموظف بالنسبة للجزاءات التأديبية البسيطة، كما انه لا يوجد مبرر قانوني، أو عملي للتفرقة بين أنواع الجزاءات في إجراء التحقيق من عدمه، ولذا فقد قررت محكمة العدل العليا الاردنية” أنه لا يجوز للإرادة ان تعاقب الموظف بغير الإجراءات التأديبية(44)، وحتى في حالة غياب النص الصريح بوجوب اتباع إجراءات معينة، فإنه لا بد من أن توفر إجراءات التأديب ضمانة التحقيق بغية إظهار الحقيقة(45). وبالتأسيس على ما سبق، فإن التحقيق الإداري السليم، يتطلب بأن يكون صادرا عن جهة منحها القانون سلطة التحقيق، وان يكون صادرا من سلطة في الشكل الذي حدده القانون، إضافة إلى ذلك أن يكون الهدف من التحقيق هو البحث عن الأدلة التي تفيد في كشف الحقيقة، وآية ذلك أن القاعدة الجنائية العامة التي تفيد أن المتهم برئ حتى يثبت العكس مطبقة في المجال التأديبي، لذا يجب جمع المعلومات الضرورية لتقرير مدى ملائمة مباشرة ومتابعة الإجراءات التأديبية(46).
السلطة المختصة بالإحالة إلى التحقيق :
من المنطقي أن تكون السلطة المختصة بالتأديب هي السلطة المختصة بالإحالة إلى التحقيق فيما هو منسوب إلى الموظف(47). وتلعب السلطة الرئاسية التي يتبعها الموظف المتهم دورا كبيرا في مجال مباشرة التحقيق .
فقد بين المشرع الأردني كيفية تشكيل هيئة التحقيق في المخالفة التي ارتكبها الموظف قبل النظر فيها وإصدار قرار بشأنها، وتتمثل السلطة التأديبية الرئاسية وفق احكام المادتين (147)و(143) من نظام الخدمة المدنية الأردني لسنة 2002 في الوزير والأمين العام والرئيس المباشر للموظف والمدير .
ووفقا لأحكام المادة (148) من نظام الخدمة المدنية الحالي، فإن الدعوى التأديبية بحق الموظف تحال بقرار من الوزير، مرفقه بلائحة تتضمن وقائع المخالفة وتفاصيلها، وبمحاضر التحقيق الذي أجرى حول تلك المخالفة، وكافة البينات الخطية أو المادية في الدعوى .
وترتيبا على ذلك، فإنه يكون من الطبيعي أن يسند إلى السلطة الرئاسية بإعتبارها السلطة التأديبية المختصة الحق في اتخاذ الاجراء التمهيدي المعروف بالامر بالتحقيق فيما نسب للموظف في مخالفات والتحقيق من مدى ثبوتها من خلال الأدلة والقرائن المتوافرة بين يدي السلطة الرئاسية والامرة بالتحقيق، وبالتأسيس على ما سبق فإن سلامة الإجراء التمهيدي الخاص بالإحالة إلى التحقيق وصدور الأمر به على نحو مشروع يهدف إلى حماية المصلحة العامة للادارة كما يهدف إلى حماية المصلحة الخاصة للموظف محل المساءلة التأديبية .
السلطة المختصة بالتحقيق :
يجب على السلطات الرئاسية التحقيق مع الموظف المتهم بإعتبار ان ذلك يدخل في اختصاصها، كون التأديب في حد ذاته امتداد للسلطة التأديبية الرئاسية .
ووفقا لذلك فقد إتجه المشرع الأردني في نظام الخدمة المدنية النافذة المفعول إلى اعتناق الاسلوب الاداري في تنظيم السلطات الادارية حيث جعل جهة السلطة الرئاسية التي يتبعها الموظف هي الجهة التي تتولى التحقيق معه، وهذا الحق أي حق الإدارة في التحقيق مع موظفيها هو حق اصيل يؤكده نظام الخدمة المدنية مادة (147). ويستفاد من ذلك أن السلطة المختصة بالأمر بالتحقيق إنما تتمثل في شخص الوزير، ومن بعده من الرؤساء المباشرين حسب التسلسل الهرمي، والتدرج الوظيفي ضمن نطاق الهيكل التنظيمي للجهة الإدارية التي يتبع لها الموظف المتهم .
ويلاحظ أن المشرع الاردني قد اخذ بالاتجاه الإداري في التأديب، مدعما السلطات الرئاسية في التأديب وبخاصة الرؤساء المباشرين الذي منحهم هذا النظام سلطات تأديبية، هادفا من وراء ذلك تحقيق منطق الفاعلية في العمل الإداري، والسعي إلى تحقيق منطق الضمان للموظفين .
المبحث الثاني
الاستقلال بين الدعويين التأديبية والجزائية
من المقرر تشريعا وفقها وقضاء استقلال الدعوى التأديبية عن الدعوى الجزائية، ويبدو هذا الاستقلال واضحا في اختلاف النظام القانوني الذي يخضع له كل منهما، وهذا الاستقلال مؤكد في كتابات فقهاء القانون الاداري سواء في فرنسا أو مصر أو الاردن، كما تؤكده احكام القضاء الإداري والتأديبي المقارن، ويؤكد نظام الوظيفة العامة ان هدف الدعوى التأديبية هو إصلاح الموظف وردعه، إذ، يجب عليه ان يعمل على احترام واجباته الوظيفية وان يكون مخلصا في عمله في ان الهدف الرئيسي من إيقاع العقوبة الجزائية على مرتكب الجريمة الجزائية هو حماية المجتمع وأمنه واستقراره
المطلب الأول استقلال التحقيق التأديبي عن التحقيق الجزائي :
الأصل أن المسؤولية التأديبية مستقلة عن المسؤولية الجنائية التي قد يتعرض لها الموظف العام وهذا الاستقلال قائم حتى وإن كان هناك ثمة ارتباط بينهما، ومن ثم فإن قيام أي من المسؤوليتين التأديبية أو الجزائية لا يتعارض مع قيام الاخرى، ويشمل استقلال المسؤولية التأديبية وصف المخالفة المسلكية وتحديد أركانها كما يمتد إلى تحريك الإجراءات الخاصة بها، ومن المقرر، وكقاعدة عامة، أن الإجراءات الجنائية لا توقف الإجراءات التأديبية وترتيبا على ذلك يمكن تحريك إجراءات المسؤولين التأديبية والجزائية معا ضد الموظف العام في وقت واحد وعن فعل واحد دون أن يعد ذلك تعددا أو ازدواجا في المسؤولية، إذ إن لكل مسؤولية نطاقها الذي تعمل فيه، وبالرغم من هذا الاستقلال، فإن المشرع الاردني لم يقرر الاخذ بتحريك الإجراءات الجنائية والتأديبية معا وفي آن واحد وعن ذات الوقائع المادية(48) .
إن الخصائص التي تتميز بها الدعوى التأديبية تستوجب أن تباشر هذه الدعوى وفق معايير تختلف عن تلك المعايير، والأحكام التي تحكم الدعوى العمومية، فالسلطة التأديبية لا تتقيد في تكييفها للجرائم بقواعد وضوابط قانون العقوبات وإنما يتعين عليها ان تستخلص المخالفة المسلكية ووصفها من جماع الوقائع التي تشكل جريمة تأديبية على نحو ما هو مفهوم في المجال الإداري.
ويتمثل استقلال التحقيق التأديبي بالصلاحية التي تتمتع بها السلطة التأديبية حيث تملك صلاحية تقدير ملاءمة تحريك الإجراءات التأديبية من عدمها دون ان يكون لتحريك الإجراءات الجزائية اي تأثير على تقديرها الاداري وقرارها الصادر بهذا الصدد. لهذا فإن تحريك الدعوى المتعلقة بالجريمتين التأديبية والجزائية، لا يترتب عليه أن توقف إحداهما الأخرى، بل إنه يمكن أن تسير كل منهما في طريقها للوصول إلى غايتها المقصودة .
وبعبارة أخرى فأنه لا يترتب على التحقق في جريمة جزائية ضرورة وقف التحقيق في الجريمة التأديبية بل أن كل منهما تستقل بإجراءاتها الخاصة بها ويمكن السير بهما وفق الإجراءات الخاصة بكل منهما، ولكن ورغم ما سبق ذكره، فإن للسلطة التأديبية أن تقدر ظروف العمل الذي ارتكبه الموظف وملابساته وأن تقرر، بالتالي، ما إذا كان من الملائم ان تنتظر حتى يتم الفصل في القضية الجزائية أو ان تتخذ اجراءات التحقيق اللازمة وهذا الامر متروك لتقديرها وقناعتها .
وبناءً على ما تقدم، تستطيع السلطة التأديبية مباشرة التحقيق التأديبي دون الانتظار حتى يتم المباشرة في التحقيق الجزائي، إلا انه يجب على سلطة التحقيق التأديبي إعلام النيابة العامة بالعمل الذي إقترفه الموظف، إذا ما تبين لها أن الفعل أو الأفعال المنسوبة إليه تنطوي على جريمة جزائية، وقيام جهة الإدارة العامة بهذا العمل يؤدي إلى خلق نوع من التعاون بين سلطة التحقيق الإداري وسلطة التحقيق الجزائي، سيما وأنهما يهدفان إلى الوصول إلى أهداف مشتركة تتمثل في اكتشاف الحقيقة وتجنب أي تناقض وتعارض محتمل ضار بسمعة العدالة(49) .
وعليه فإنه يتعين على هيئات التحقيق الإداري ضرورة أبلاغ النيابة العامة بالواقعة أو الوقائع التي يمكن ان تشكل جريمة (50). كما يجب على النيابة العامة أن تقوم بإخبار الإدارة التي ينتمي إليها الموظف بخصوص الوقائع التي تنطوي على شق تأديبي وتشكل مخالفة مسلكية، أي انه من المفروض أن يكون هناك تعاون بين سلطات التأديب وسلطات القضاء الجزائي، وتصدر النيابة العامة قرارها بأنه لا وجه لإقامة الدعوى إذا تبين لها ان الافعال التي ارتكبها الموظف هي واقعية وصحيحهة وانها لا تشكل جريمة (جناية أو جنحة أو مخالفة) أو في حالة عدم معرفة الفاعل أو في حالة عدم كفاية الأدلة .