بحث ودراسة قانونية مقارنة حول شروط الشهادة في الفقة الاسلامي و القانون اليمني
الباحث/ خالد عمر أحمد سعيد
تحت إشراف
د. سعيد خالد جباري الشرعبي
أستاذ قانون المرافعات والنحو العربي
بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
والمعهد العالي للقضاء
قال تعالىشَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلا هُو َالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صدق الله العظيم
الإهداء
إلى:ـ
– روح والدتي الطاهرة، طيب الله ثراها.
– والدي، وجدي العزيزين اللذَّين مدا لي يد العون، ومنحاني صالح الدعوات، أطال الله عمريهما في طاعته.
– كل من أخذ بيدي حتى ارتقيت ذُرى العلم، وخطوت طريق النجاح.
– كل من يطلب العلم لينير الدروب، ويمحو ظلمة الجهل، والتخلف عن بلدي… اليمن.
– كل من بذل نفسه رخيصة في سبيل تحقيق العدالة، ورفع الظلم عن الناس.
الباحث
الشكر والتقدير
بعد شكر المولى عز وجلَّ على نعمه المسداة
أتقدم بالشكر الجزيل، والثناء الجميل لأستاذي الجليل
الدكتور/ سعيد خالد جباري الشرعبي
على منحه إياي وقته، وجهده، وخبرته، وعلمه، وتوجيهاته القيمة السديدة.
وأقدر ما أسداه من نصح صادق، وإرشاد هادف، وتوجيه قويم، مما كان له أطيب الأثر في حسن إخراج هذا البحث فجزاه الله عني، وعن طلبة العلم خير الجزاء، وجعل ذلك في ميزان حسناته.
الباحث
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
وبعد:
شروط الشهادة في الفقة الإسلامي والقوانين اليمنية - بحث ودراسة قانونية متميزة
أولاً:- تحديد الموضوع
كانت الشهادة ولا تزال أهم وسيلة من وسائل الإثبات، وأعظمها مكانة، وأقدمها استعمالاً، وذلك لما لها من مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة، في الشريعة الإسلامية.
فإن الله تعالى نسبها إلى نفسه، وشرّف بها ملائكته، ورسله، وأفاضل خلقه، وأمرنا جل وعلا بأدائها في أكثر من موضع في كتابه العزيز دستور الأمة الإسلامية القرآن الكريم.
قال تعالىشَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلا هُو َالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( )
وقال تعالىفَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا) ( )
وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) ( )
وقال تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ( )
ثانياً:- أهمية الموضوع
ولأهمية الشهادة باعتبارها من أهم أدلة الإثبات التي يعتمد عليها القضاة في أحكامهم، فبها تقام الحدود، وتصان الدماء، وتحفظ الأموال، وكافة الحقوق، لهذا جعلها الفقه الإسلامي، والقانون اليمني في المرتبة الأولى بين سائر وسائل الإثبات الأخرى، كما جعلاها ذات حجية شاملة في جميع الوقائع، والحوادث دون تفرقة بين حق وآخر، متى توفرت كافة شروطها المنصوص عليها في كتب الفقه الإسلامي، والقانون الوضعي.
ثالثاً:- أسباب اختيار الموضوع
هذا ولما كانت قيمة الشهادة، وحجيتها في الإثبات تتوقف على توفر شروطها، إذ أنه بانتفاء تلك الشروط، أو أحدها، لا يمكن أن تكون للشهادة أية قيمة تذكر، ولما استطاع القاضي أن يستعين بها في قضائه، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع الحقوق عن أصحابها.
وبما أن أغلب الوقائع الجنائية تلعب الشهادة الدور الأكبر في إثباتها، فحرصاً على إنارة طريق العدالة، وإزالة العوائق التي قد تعترض سيرها، وقطع السبيل أمام الشهود الذين لا يراقبون الله فيما يدلون به من شهادات قد تؤدي إلى إعدام نفس بريئة، أو تبرئة مجرم خطير رغم كذبها وزوريتها، وحفاظاً على حقوق الناس، وأنفسهم، وأعراضهم، كان اختياري لهذا الموضوع (شروط الشهادة في الفقه الإسلامي والقانون اليمني).
إذ أن القاضي متى تأكد من توفر هذه الشروط قبل الحكم بالشهادة، كلما كان أقرب وصولاً إلى العدالة، ولما استطاع أي مجرم، أو ظالم، أو شاهد زور، مهما كان دهاؤه، أن يظللها أمامه أو ينحو بها عن منحاها الصحيح، وبالإضافة إلى قلة البحوث المتخصصة في مثل هذه الجزئيات المهمة، وعزوف كافة الزملاء عن التطرق لهذا الموضوع رغم أهميته البالغة في إثبات الدعاوى الجزائية والمدنية،الأمر الذي دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع بعد موافقة الأب الفاضل الدكتور/سعيد خالد الشرعبي المشرف على هذا البحث.
رابعاً:- أسلوب دراسة البحث
وقد ركزت في هذا البحث على الجانب الجنائي متبعاً في سبيل إنجازه الأسلوب المقارن معتمداً في ذلك على أهم المراجع الشرعية، والقانونية، المتعلقة بموضوع البحث، وأسأل الله التوفيق، فإن أحسنت وأصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني، ومن الشيطان.
خامساً:- خطة دراسة البحث
المقدمة:-
المبحث التمهيدي:ـ ماهية الشهادة
الفروع الأول:ـ تعريف الشهادة
الفروع الثاني:ـ مشروعية الشهادة وحكم أدائها
المبحث الأول:ـ الشروط الواجب توفرها في الشاهد.
المبحث الثاني:ـ الشروط الواجب توفرها في ذات الشهادة.
المبحث الثالث:ـ الشروط الواجب توفرها في المشهود به.
المبحث الرابع:ـ الشروط الواجب توفرها في الشهادة على جرائم الحدود.
الخاتمة
المبحث التمهيدي ماهية الشهادة
نتناول في هذا المبحث التمهيدي ماهية الشهادة من حيث بيان تعريفها، ومشروعيتها، وحكم أدائها، وذلك في فرعين على النحو الأتي:ـ
الفرع الأول:ـ تعريف الشهادة.
الفرع الثاني:ـ مشروعية الشهادة وحكم أدائها.
الفرع الأول تعريف الشهادة
الشهادة في الدعوى الجنائية: وسيلة إثبات بمقتضاها يدلي الشاهد عادة بمعلوماته عما شاهده، أو سمعه، أو أدركه بحواسه عن واقعة معينة، أو ظروف خاصة بالجريمة، أو عن الجريمة برمتها أمام سلطة التحقيق، أو المحكمة الجزائية، أما الشهادة في اللغة فلها عدة معانٍ مختلفة، وكذا يختلف تعريفها في الفقه الإسلامي باختلاف مذاهب الفقهاء كما هو الحال كذلك في الفقه القانوني، وبيان ذلك على النحو التالي:ـ
أولاً:ـ الشهادة في اللغة.
للشهادة في اللغة معانٍ مختلفة هي
1- البيان أو الإخبار:ـ بمعنى الإعلام، والإخبار القاطع، أو القول الصادر عن علم حاصل بالمشاهدة( ) ومنه قوله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ)( ) – أي بيّن وأعلم –
2- الحضور:ـ فالشهادة مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور( ) ومنه قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) ( ) – أي يحضر ليشاهد-
3- الحلف أو اليمين:ـ ومنه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ( )
4- الإطلاع:ـ مثل قولك شهدت كذا وكذا أي أطلعت عليه، وعاينته.
5- الإدراك:ـ مثل قولك شهدت صلاة العيد – أي أدركتها-.
ثانياً:ـ الشهادة في الفقه الإسلامي
يعرفها الشافعية: بأنها (إخبار (الشاهد) بحق لغيره على غيره بلفظ مخصوص)( )
وعرفها المالكية: بأنها (قول هو بحيث يوجب، أو يتحتم بموجبه على الحاكم سماعه، والحكم بمقتضاه، إن عدل قائله مع تعدده أو حلف طالبه)( )
وعرفها الحنفية: بأنها (إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء)( )
ثالثاً:ـ الشهادة في الفقه القانوني
للشهادة في الفقه القانوني تعريفات عديدة تختلف في ألفاظها لكنها تتفق في مضمونها، ولهذا سنقتصر على إيراد تعريفين اثنين كونهما الأشمل، ولا يخرج ما سواهما عنهما.
الأول للدكتور إبراهيم الغماز حيث يعرف الشهادة بأنها: “التعبير عن مضمون الإدراك الحسي للشاهد بما راءه، أو سمعه بنفسه من معلومات عن الغير مطابقة لحقيقة الواقعة التي يشهد عليها في مجلس القضاء، بعد أداء اليمين، ممن تقبل شهادتهم، وممن يسمح لهم بها، ومن غير الخصوم في الدعوى”( )
والثاني للدكتور محمود نجيب حسني حيث يعرفها بأنها: “تقرير يصدر عن شخص في شأن واقعة عاينها بحاسة من حواسه”( )
رابعاً: الشهادة في القانون اليمني
عرف الشهادة قانون الإثبات اليمن رقم (21) لسنة 1992م في المادة رقم (26) بأنها: ((إخبار في مجلس القضاء من شخص بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره))
وكما هو واضح من نص هذه المادة، فإن القانون اليمني قد جمع بين تعريف الشافعية والحنفية بحيث استطاع الخروج بتعريف جامع مانع، لا يخرج عما أتى به فقهاء الفقه الإسلامي.
الفرع الثاني مشروعية الشهادة وحكم أدائها
المقصود بمشروعية الشهادة: الأساس الشرعي، أو المصدر، أو المرجع، لاعتبار الشهادة دليل من أدلة الإثبات، أما حكم أدائها فالمقصود به: الحكم ألتكليفي في اصطلاح أصول الفقه الإسلامي من حيث كونها واجبة، أو مندوبة، أو فرض عين، أو فرض كفاية، وبيان ذلك على النحو التالي:ـ
أولاً:ـ مشروعية الشهادة
الأساس الشرعي في مشروعية الشهادة هو: الكتاب، والسنة، والإجماع.
1- الكتاب:ـ لقد أمرنا الله جل وعلا بأداء الشهادة في أكثر من موضع في كتابه العزيز، قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) ( ) وقال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) ( ) وقال تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ( )
2- السنة النبوية:ـ لقد حثنا صلى الله عليه وسلم على أداء الشهادة، وذم شاهدي الزور، وزجرهم، كما أمرنا بإكرام الشهود، وبين لنا كيفية الشهادة صلى الله عليه وسلم، فجاء في موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي شهادته قبل أن يسألها”( ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الشهادة؟ فقال للسائل: “ترى الشمس؟” قال: نعم، فقال:”على مثلها فأشهد وإلا فدع”( ) وقال صلى الله عليه وسلم: “أكرموا الشهود فإن الله يحيي بهم الحقوق ويستخرج بهم الباطل”
3- الإجماع: ثبت بإجماع الأمة الإسلامية من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا هذا اعتبار الشهادة حجة في الإثبات من غير نكير، لأن الحاجة داعيةَ إليها، لحصول التجاحد بين الناس.
4- قال القاضي شريح رحمة الله عليه “القضاء جمرة فنحه عنك بعودين _يعني الشاهدين_ وإنما الخصم داء، والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء”( )
ثانياً:ـ حكم تحمل الشهادة وأدائها.
تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية( ) إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لقوله تعالى: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ) ( ) وقوله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ( )
فيجب على من تحملوا الشهادة أدائها، متى ما دُعوا لذلك، فإن قام بالأداء اثنان منهم سقط الفرض عن الجميع،( ) ولا يأثم الممتنع عن أداء الشهادة، إلا إذا لم يكن عليه ضرر من أدائها، وكانت شهادته نافعة، أمَّا إذا كان عليه ضرر، فلا يلزمه الأداء، ولا إثم عليه لقوله تعالى: (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” ولا يلزم الشاهد أن يضر نفسه لينفع غيره( )
“ويرى ابن حزم: أن أداء الشهادة فرض عين على كل من علمها إلا أن يكون عليه حرج في ذلك لبعد مشقة أو لتضييع مال أو ضعف في جسمه فليعلنها فقط”( )
موقف القانون اليمني
لا يخالف القانون اليمني الفقه الإسلامي في أن تحمل الشهادة فرض كفاية، لكنه يرى أن أداء الشهادة من الواجبات الاجتماعية المفروضة على ألأفراد، وذلك إظهاراً للحق، وخدمة للعدالة في تسهيل مهمة القاضي في الفصل في المنازعات المعروضة أمامه، ولذا أوجب على متحمل الشهادة الأداء، ويُجبر، ويعاقب، عند الامتناع فنصت المادة (57) إثبات على أنه: “يجب على محتمل الشهادة أصالة أو إدعاء أدْاؤها عند طلب المشهود له” ونصت المادة (63) إثبات على انه: ((إذا رفض الشاهد الحضور إجابة لدعوة الخصم أو المحكمة جاز للقاضي إحضاره جبراً))ونصت المادة (128) من قانون الجرائم والعقوبات على أنه: ((يُعاقب بالغرامة التي لا تتجاوز خمسة آلاف ريال الشاهد الذي لا يحضر أمام المحكمة بعد تكليفه بالحضور))
المبحث الأول الشروط الواجب توفرها في الشاهد
نتناول في هذا المبحث الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال تحمله الشهادة، وعند أدائها، والشروط المتعلقة بصلاحية الشاهد لأداء الشهادة، وذلك في ثلاثة مطالب على النحو الأتي:ـ
المطلب الأول:ـ الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال تحمل الشهادة
المطلب الثاني:ـ الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال أداء الشهادة
المطلب الثالث:ـ الشروط المتعلقة بصلاحية الشاهد لأداء الشهادة
المطلب الأول الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال تحمل الشهادة
يقصد بتحمل الشهادة: قُدرة الشاهد على حفظها وضبطها، ويشترط الفقه الإسلامي ثلاثة شروط يجب توفرها في الشاهد حال تحمل الشهادة وهي: 1- العقل 2- البصر 3- الرؤية المباشرة، وبيانها على النحو التالي:ـ
الشرط الأول:ـ العقل
العقل: هو الحاسة التي ميز الله تعالى بها الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، فبه يستطيع الإنسان التفكير، وتصور الأشياء، وإدراك الوقائع، والتمييز بين الحق، والباطل، والنافع والضار، وبه يحفظ الإنسان كل ما يطَّلع عليه، أو يشاهده في حياته، ومتى ما فقد الإنسان عقله سقطت عنه سائر التكاليف الشرعية، لقوله صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم.. المجنون حتى يعقل”.
ويتفق كافة أهل العلم في الفقه الإسلامي: على أنه يجب أن يكون الشاهد عاقلاً، وقت تحمل الشهادة، حتى يستطيع حفظها، وضبطها، فلا يصح التحمل من المجنون، والصبي الذي لا يعقل، لأن تحمل الشهادة عبارة عن فهم الحادثة، وضبطها، ولا يحصل ذلك إلا بآلة الفهم والضبط وهي: العقل( )
فالعاقل: هو الذي يكون أميناً على حقوقه، وحقوق غيره، أو هو سوي السلوك، والتصرف، العارف لحقوق الشهادة، وواجباتها. فلا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعا سواء ذهب عقله بجنون، أو سكر، أو طفولية، أو كان معتوهاً.( )
ويتفق القانون اليمني مع الفقه الإسلامي في اشتراط العقل، وهذا ما نصت عليه المادة (27) ألفقره (أ) من قانون الاثبات.
الشرط الثاني:ـ البصر
المبصر: هو القادر على المشاهدة، فلا تقبل شهادة الأعمى، لأنه لا يستطيع أن يميز بين الأصوات، لأنها تشبه بعضها بعضاً، ولأنه لا يستطيع أن يميز بين المشهود عليه، والمشهود له. ولهذا يشترط الحنفية، والإمام أحمد بن حنبل في الشاهد: أن يكون مبصراً وقت تحمل الشهادة( ) .ويرى الإمام الشافعي وابن حزم: أن البصر ليس بشرط لصحة التحمل ولا لصحة الأداء، فتقبل شهادة الأعمى، وذلك لأن الحاجة إلى البصر عند التحمل تكمن في حصول العلم بالمشهود به، وذلك يحصل بالسماع، وللأعمى سماع صحيح، فيصح تحمله للشهادة ويقدر على الأداء بعد التحمل( ) .
موقف القانون اليمني
نصت المادة (29) إثبات على أنه: ((لا تقبل شهادة الأعمى فيما يحتاج إثباته إلى رؤية)) ومن خلال هذا النص يتضح لنا مدى فطنة المشرع اليمني، ودقة ألفاظه، واتفاقه مع الفقه الإسلامي، إذ أنه لم يأخذ بمذهب الحنفية على إطلاقه، ولا بمذهب الشافعية على إطلاقه، بل إنه جمع بينهما، وفرق بين ما يحتاج إثباته إلى رؤية، وبين ما لا يحتاج إثباته إلى رؤية، فأشترط الإبصار في الأولى دون الثانية،كما أنه أضاف شرط الحضور في الجنايات في مكان الواقعة تأكيداً منه على أن الجنايات لا يمكن إثباتها بالشهادة، إلا من الشاهد المبصر القادر على المشاهدة، والحاضر في المكان الذي وقعت فيه الجناية إذ تنص المادة (35) إثبات على أنه: ((لا يقبل في الجنايات شهود إلا ممن ثبت أنهم كانوا حاضرين في المكان الذي وقعت فيه الجناية ما لم تكن الشهادة على اعترافات المتنازعين))
الباحث/ خالد عمر أحمد سعيد
تحت إشراف
د. سعيد خالد جباري الشرعبي
أستاذ قانون المرافعات والنحو العربي
بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
والمعهد العالي للقضاء
قال تعالىشَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلا هُو َالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صدق الله العظيم
الإهداء
إلى:ـ
– روح والدتي الطاهرة، طيب الله ثراها.
– والدي، وجدي العزيزين اللذَّين مدا لي يد العون، ومنحاني صالح الدعوات، أطال الله عمريهما في طاعته.
– كل من أخذ بيدي حتى ارتقيت ذُرى العلم، وخطوت طريق النجاح.
– كل من يطلب العلم لينير الدروب، ويمحو ظلمة الجهل، والتخلف عن بلدي… اليمن.
– كل من بذل نفسه رخيصة في سبيل تحقيق العدالة، ورفع الظلم عن الناس.
الباحث
الشكر والتقدير
بعد شكر المولى عز وجلَّ على نعمه المسداة
أتقدم بالشكر الجزيل، والثناء الجميل لأستاذي الجليل
الدكتور/ سعيد خالد جباري الشرعبي
على منحه إياي وقته، وجهده، وخبرته، وعلمه، وتوجيهاته القيمة السديدة.
وأقدر ما أسداه من نصح صادق، وإرشاد هادف، وتوجيه قويم، مما كان له أطيب الأثر في حسن إخراج هذا البحث فجزاه الله عني، وعن طلبة العلم خير الجزاء، وجعل ذلك في ميزان حسناته.
الباحث
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
وبعد:
شروط الشهادة في الفقة الإسلامي والقوانين اليمنية - بحث ودراسة قانونية متميزة
أولاً:- تحديد الموضوع
كانت الشهادة ولا تزال أهم وسيلة من وسائل الإثبات، وأعظمها مكانة، وأقدمها استعمالاً، وذلك لما لها من مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة، في الشريعة الإسلامية.
فإن الله تعالى نسبها إلى نفسه، وشرّف بها ملائكته، ورسله، وأفاضل خلقه، وأمرنا جل وعلا بأدائها في أكثر من موضع في كتابه العزيز دستور الأمة الإسلامية القرآن الكريم.
قال تعالىشَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلا هُو َالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( )
وقال تعالىفَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا) ( )
وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) ( )
وقال تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ( )
ثانياً:- أهمية الموضوع
ولأهمية الشهادة باعتبارها من أهم أدلة الإثبات التي يعتمد عليها القضاة في أحكامهم، فبها تقام الحدود، وتصان الدماء، وتحفظ الأموال، وكافة الحقوق، لهذا جعلها الفقه الإسلامي، والقانون اليمني في المرتبة الأولى بين سائر وسائل الإثبات الأخرى، كما جعلاها ذات حجية شاملة في جميع الوقائع، والحوادث دون تفرقة بين حق وآخر، متى توفرت كافة شروطها المنصوص عليها في كتب الفقه الإسلامي، والقانون الوضعي.
ثالثاً:- أسباب اختيار الموضوع
هذا ولما كانت قيمة الشهادة، وحجيتها في الإثبات تتوقف على توفر شروطها، إذ أنه بانتفاء تلك الشروط، أو أحدها، لا يمكن أن تكون للشهادة أية قيمة تذكر، ولما استطاع القاضي أن يستعين بها في قضائه، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع الحقوق عن أصحابها.
وبما أن أغلب الوقائع الجنائية تلعب الشهادة الدور الأكبر في إثباتها، فحرصاً على إنارة طريق العدالة، وإزالة العوائق التي قد تعترض سيرها، وقطع السبيل أمام الشهود الذين لا يراقبون الله فيما يدلون به من شهادات قد تؤدي إلى إعدام نفس بريئة، أو تبرئة مجرم خطير رغم كذبها وزوريتها، وحفاظاً على حقوق الناس، وأنفسهم، وأعراضهم، كان اختياري لهذا الموضوع (شروط الشهادة في الفقه الإسلامي والقانون اليمني).
إذ أن القاضي متى تأكد من توفر هذه الشروط قبل الحكم بالشهادة، كلما كان أقرب وصولاً إلى العدالة، ولما استطاع أي مجرم، أو ظالم، أو شاهد زور، مهما كان دهاؤه، أن يظللها أمامه أو ينحو بها عن منحاها الصحيح، وبالإضافة إلى قلة البحوث المتخصصة في مثل هذه الجزئيات المهمة، وعزوف كافة الزملاء عن التطرق لهذا الموضوع رغم أهميته البالغة في إثبات الدعاوى الجزائية والمدنية،الأمر الذي دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع بعد موافقة الأب الفاضل الدكتور/سعيد خالد الشرعبي المشرف على هذا البحث.
رابعاً:- أسلوب دراسة البحث
وقد ركزت في هذا البحث على الجانب الجنائي متبعاً في سبيل إنجازه الأسلوب المقارن معتمداً في ذلك على أهم المراجع الشرعية، والقانونية، المتعلقة بموضوع البحث، وأسأل الله التوفيق، فإن أحسنت وأصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني، ومن الشيطان.
خامساً:- خطة دراسة البحث
المقدمة:-
المبحث التمهيدي:ـ ماهية الشهادة
الفروع الأول:ـ تعريف الشهادة
الفروع الثاني:ـ مشروعية الشهادة وحكم أدائها
المبحث الأول:ـ الشروط الواجب توفرها في الشاهد.
المبحث الثاني:ـ الشروط الواجب توفرها في ذات الشهادة.
المبحث الثالث:ـ الشروط الواجب توفرها في المشهود به.
المبحث الرابع:ـ الشروط الواجب توفرها في الشهادة على جرائم الحدود.
الخاتمة
المبحث التمهيدي ماهية الشهادة
نتناول في هذا المبحث التمهيدي ماهية الشهادة من حيث بيان تعريفها، ومشروعيتها، وحكم أدائها، وذلك في فرعين على النحو الأتي:ـ
الفرع الأول:ـ تعريف الشهادة.
الفرع الثاني:ـ مشروعية الشهادة وحكم أدائها.
الفرع الأول تعريف الشهادة
الشهادة في الدعوى الجنائية: وسيلة إثبات بمقتضاها يدلي الشاهد عادة بمعلوماته عما شاهده، أو سمعه، أو أدركه بحواسه عن واقعة معينة، أو ظروف خاصة بالجريمة، أو عن الجريمة برمتها أمام سلطة التحقيق، أو المحكمة الجزائية، أما الشهادة في اللغة فلها عدة معانٍ مختلفة، وكذا يختلف تعريفها في الفقه الإسلامي باختلاف مذاهب الفقهاء كما هو الحال كذلك في الفقه القانوني، وبيان ذلك على النحو التالي:ـ
أولاً:ـ الشهادة في اللغة.
للشهادة في اللغة معانٍ مختلفة هي
1- البيان أو الإخبار:ـ بمعنى الإعلام، والإخبار القاطع، أو القول الصادر عن علم حاصل بالمشاهدة( ) ومنه قوله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ)( ) – أي بيّن وأعلم –
2- الحضور:ـ فالشهادة مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور( ) ومنه قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) ( ) – أي يحضر ليشاهد-
3- الحلف أو اليمين:ـ ومنه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ( )
4- الإطلاع:ـ مثل قولك شهدت كذا وكذا أي أطلعت عليه، وعاينته.
5- الإدراك:ـ مثل قولك شهدت صلاة العيد – أي أدركتها-.
ثانياً:ـ الشهادة في الفقه الإسلامي
يعرفها الشافعية: بأنها (إخبار (الشاهد) بحق لغيره على غيره بلفظ مخصوص)( )
وعرفها المالكية: بأنها (قول هو بحيث يوجب، أو يتحتم بموجبه على الحاكم سماعه، والحكم بمقتضاه، إن عدل قائله مع تعدده أو حلف طالبه)( )
وعرفها الحنفية: بأنها (إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء)( )
ثالثاً:ـ الشهادة في الفقه القانوني
للشهادة في الفقه القانوني تعريفات عديدة تختلف في ألفاظها لكنها تتفق في مضمونها، ولهذا سنقتصر على إيراد تعريفين اثنين كونهما الأشمل، ولا يخرج ما سواهما عنهما.
الأول للدكتور إبراهيم الغماز حيث يعرف الشهادة بأنها: “التعبير عن مضمون الإدراك الحسي للشاهد بما راءه، أو سمعه بنفسه من معلومات عن الغير مطابقة لحقيقة الواقعة التي يشهد عليها في مجلس القضاء، بعد أداء اليمين، ممن تقبل شهادتهم، وممن يسمح لهم بها، ومن غير الخصوم في الدعوى”( )
والثاني للدكتور محمود نجيب حسني حيث يعرفها بأنها: “تقرير يصدر عن شخص في شأن واقعة عاينها بحاسة من حواسه”( )
رابعاً: الشهادة في القانون اليمني
عرف الشهادة قانون الإثبات اليمن رقم (21) لسنة 1992م في المادة رقم (26) بأنها: ((إخبار في مجلس القضاء من شخص بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره))
وكما هو واضح من نص هذه المادة، فإن القانون اليمني قد جمع بين تعريف الشافعية والحنفية بحيث استطاع الخروج بتعريف جامع مانع، لا يخرج عما أتى به فقهاء الفقه الإسلامي.
الفرع الثاني مشروعية الشهادة وحكم أدائها
المقصود بمشروعية الشهادة: الأساس الشرعي، أو المصدر، أو المرجع، لاعتبار الشهادة دليل من أدلة الإثبات، أما حكم أدائها فالمقصود به: الحكم ألتكليفي في اصطلاح أصول الفقه الإسلامي من حيث كونها واجبة، أو مندوبة، أو فرض عين، أو فرض كفاية، وبيان ذلك على النحو التالي:ـ
أولاً:ـ مشروعية الشهادة
الأساس الشرعي في مشروعية الشهادة هو: الكتاب، والسنة، والإجماع.
1- الكتاب:ـ لقد أمرنا الله جل وعلا بأداء الشهادة في أكثر من موضع في كتابه العزيز، قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) ( ) وقال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) ( ) وقال تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ( )
2- السنة النبوية:ـ لقد حثنا صلى الله عليه وسلم على أداء الشهادة، وذم شاهدي الزور، وزجرهم، كما أمرنا بإكرام الشهود، وبين لنا كيفية الشهادة صلى الله عليه وسلم، فجاء في موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي شهادته قبل أن يسألها”( ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الشهادة؟ فقال للسائل: “ترى الشمس؟” قال: نعم، فقال:”على مثلها فأشهد وإلا فدع”( ) وقال صلى الله عليه وسلم: “أكرموا الشهود فإن الله يحيي بهم الحقوق ويستخرج بهم الباطل”
3- الإجماع: ثبت بإجماع الأمة الإسلامية من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا هذا اعتبار الشهادة حجة في الإثبات من غير نكير، لأن الحاجة داعيةَ إليها، لحصول التجاحد بين الناس.
4- قال القاضي شريح رحمة الله عليه “القضاء جمرة فنحه عنك بعودين _يعني الشاهدين_ وإنما الخصم داء، والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء”( )
ثانياً:ـ حكم تحمل الشهادة وأدائها.
تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية( ) إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لقوله تعالى: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ) ( ) وقوله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ( )
فيجب على من تحملوا الشهادة أدائها، متى ما دُعوا لذلك، فإن قام بالأداء اثنان منهم سقط الفرض عن الجميع،( ) ولا يأثم الممتنع عن أداء الشهادة، إلا إذا لم يكن عليه ضرر من أدائها، وكانت شهادته نافعة، أمَّا إذا كان عليه ضرر، فلا يلزمه الأداء، ولا إثم عليه لقوله تعالى: (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” ولا يلزم الشاهد أن يضر نفسه لينفع غيره( )
“ويرى ابن حزم: أن أداء الشهادة فرض عين على كل من علمها إلا أن يكون عليه حرج في ذلك لبعد مشقة أو لتضييع مال أو ضعف في جسمه فليعلنها فقط”( )
موقف القانون اليمني
لا يخالف القانون اليمني الفقه الإسلامي في أن تحمل الشهادة فرض كفاية، لكنه يرى أن أداء الشهادة من الواجبات الاجتماعية المفروضة على ألأفراد، وذلك إظهاراً للحق، وخدمة للعدالة في تسهيل مهمة القاضي في الفصل في المنازعات المعروضة أمامه، ولذا أوجب على متحمل الشهادة الأداء، ويُجبر، ويعاقب، عند الامتناع فنصت المادة (57) إثبات على أنه: “يجب على محتمل الشهادة أصالة أو إدعاء أدْاؤها عند طلب المشهود له” ونصت المادة (63) إثبات على انه: ((إذا رفض الشاهد الحضور إجابة لدعوة الخصم أو المحكمة جاز للقاضي إحضاره جبراً))ونصت المادة (128) من قانون الجرائم والعقوبات على أنه: ((يُعاقب بالغرامة التي لا تتجاوز خمسة آلاف ريال الشاهد الذي لا يحضر أمام المحكمة بعد تكليفه بالحضور))
المبحث الأول الشروط الواجب توفرها في الشاهد
نتناول في هذا المبحث الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال تحمله الشهادة، وعند أدائها، والشروط المتعلقة بصلاحية الشاهد لأداء الشهادة، وذلك في ثلاثة مطالب على النحو الأتي:ـ
المطلب الأول:ـ الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال تحمل الشهادة
المطلب الثاني:ـ الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال أداء الشهادة
المطلب الثالث:ـ الشروط المتعلقة بصلاحية الشاهد لأداء الشهادة
المطلب الأول الشروط الواجب توفرها في الشاهد حال تحمل الشهادة
يقصد بتحمل الشهادة: قُدرة الشاهد على حفظها وضبطها، ويشترط الفقه الإسلامي ثلاثة شروط يجب توفرها في الشاهد حال تحمل الشهادة وهي: 1- العقل 2- البصر 3- الرؤية المباشرة، وبيانها على النحو التالي:ـ
الشرط الأول:ـ العقل
العقل: هو الحاسة التي ميز الله تعالى بها الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، فبه يستطيع الإنسان التفكير، وتصور الأشياء، وإدراك الوقائع، والتمييز بين الحق، والباطل، والنافع والضار، وبه يحفظ الإنسان كل ما يطَّلع عليه، أو يشاهده في حياته، ومتى ما فقد الإنسان عقله سقطت عنه سائر التكاليف الشرعية، لقوله صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم.. المجنون حتى يعقل”.
ويتفق كافة أهل العلم في الفقه الإسلامي: على أنه يجب أن يكون الشاهد عاقلاً، وقت تحمل الشهادة، حتى يستطيع حفظها، وضبطها، فلا يصح التحمل من المجنون، والصبي الذي لا يعقل، لأن تحمل الشهادة عبارة عن فهم الحادثة، وضبطها، ولا يحصل ذلك إلا بآلة الفهم والضبط وهي: العقل( )
فالعاقل: هو الذي يكون أميناً على حقوقه، وحقوق غيره، أو هو سوي السلوك، والتصرف، العارف لحقوق الشهادة، وواجباتها. فلا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعا سواء ذهب عقله بجنون، أو سكر، أو طفولية، أو كان معتوهاً.( )
ويتفق القانون اليمني مع الفقه الإسلامي في اشتراط العقل، وهذا ما نصت عليه المادة (27) ألفقره (أ) من قانون الاثبات.
الشرط الثاني:ـ البصر
المبصر: هو القادر على المشاهدة، فلا تقبل شهادة الأعمى، لأنه لا يستطيع أن يميز بين الأصوات، لأنها تشبه بعضها بعضاً، ولأنه لا يستطيع أن يميز بين المشهود عليه، والمشهود له. ولهذا يشترط الحنفية، والإمام أحمد بن حنبل في الشاهد: أن يكون مبصراً وقت تحمل الشهادة( ) .ويرى الإمام الشافعي وابن حزم: أن البصر ليس بشرط لصحة التحمل ولا لصحة الأداء، فتقبل شهادة الأعمى، وذلك لأن الحاجة إلى البصر عند التحمل تكمن في حصول العلم بالمشهود به، وذلك يحصل بالسماع، وللأعمى سماع صحيح، فيصح تحمله للشهادة ويقدر على الأداء بعد التحمل( ) .
موقف القانون اليمني
نصت المادة (29) إثبات على أنه: ((لا تقبل شهادة الأعمى فيما يحتاج إثباته إلى رؤية)) ومن خلال هذا النص يتضح لنا مدى فطنة المشرع اليمني، ودقة ألفاظه، واتفاقه مع الفقه الإسلامي، إذ أنه لم يأخذ بمذهب الحنفية على إطلاقه، ولا بمذهب الشافعية على إطلاقه، بل إنه جمع بينهما، وفرق بين ما يحتاج إثباته إلى رؤية، وبين ما لا يحتاج إثباته إلى رؤية، فأشترط الإبصار في الأولى دون الثانية،كما أنه أضاف شرط الحضور في الجنايات في مكان الواقعة تأكيداً منه على أن الجنايات لا يمكن إثباتها بالشهادة، إلا من الشاهد المبصر القادر على المشاهدة، والحاضر في المكان الذي وقعت فيه الجناية إذ تنص المادة (35) إثبات على أنه: ((لا يقبل في الجنايات شهود إلا ممن ثبت أنهم كانوا حاضرين في المكان الذي وقعت فيه الجناية ما لم تكن الشهادة على اعترافات المتنازعين))